د. سيف بن ناصر المعمري
عادت بي الذاكرة خلال الأسبوع الماضي إلى سنوات الدراسة الأولى، إلى المدرسة التي قضيت فيها عشر سنوات هي فترة دراستي الابتدائية والإعدادية، وحاولت أن أستدعي بعض الصور للزملاء والمُعلمين الذين عرفتهم تلك الفترة، ولكن الذاكرة أصبحت مُثقلة عاجزة عن تذكر التفاصيل ..مكتفية بالأحداث المهمة جدًا. ومنها التَّسرب من المدرسة نتيجة الفشل في التحصيل الدراسي.. حيث طرد الكثيرون في ذلك الزمان. نتيجة كثرة الدوائر الحمراء التي كانوا يحصلون عليها ..لسبب واحد كان يعتقده الجميع وهو أنَّهم أغبياء ..ولست متأكدًا اليوم من ذلك التفسير.. وأود أن أعرف أين أصبحوا بعد كل هذه السنين. هل أصبحوا أفضل وظيفياً واجتماعياً وماديًا من أولئك الناجحين الذين أكملوا دراستهم، أم أنّهم في وضع أسوء مما يعني أنّ قرار خروجهم من المدرسة كان صائبًا؟ سؤال آخر تبادر إلى ذهني وهو هل لو لقي هؤلاء العناية والاهتمام والتشجيع لأصبح لهم شأن كبير في مجتمعاتهم؟.
ما أكثر الأسئلة التي هاجمتني أثناء مروري بمدرستي التي لا أعرف إن كانت مدرسة للناجحين أم الفاشلين، ولا أحد يعرف اليوم كم عدد الناجحين والفاشلين من آلاف الطلبة التي جلسوا على مقاعدها طوال هذه السنين، فذاكرة مدارسنا أيضاً ضعيفة مثل ذاكراتنا.. ولكن هناك أشياء لا تزال محفورة في الذاكرة منها حكاية الطالب الذي كان معنا في الصف الثالث حيث كان يُعاني من إعاقة في رجله..وقال له الأستاذ التونسي يومها كلمة تبكيني اليوم وأنا أتذكرها قال له: "أنت لست معاقاً في رجلك فقط أنت معاق في عقلك"، كان يُضرب كل يوم من قبل مُعظم المُعلمين ..لا لشيء إلا لأنّ الجميع حكم عليه بأنّه فاشل وأنّه لا مكان في المدرسة للفاشلين.. فمهمة المدرسة هي مساعدة الناجحين على النجاح وليست مُساعدة الفاشلين على تحقيق النجاح. وهذه هي القاعدة التي تحكم عمل المدرسة في المجتمعات التي تُتيح فرصاً متكافئة للجميع بغض النظر عن قدراتهم وميولهم.. فلا يمكن أن يكون لدى الجميع نفس الاستعدادات ونفس السرعة والدافعية للتعلم. ولكن كل نظريات التعلم التي توصل لها علماء النفس لا يلتفت إليها أحد..والدليل أننا سمعنا عن نظرية مثل نظرية الذكاءات المُتعددة للعالم الأمريكي جاردنر في وقت متأخر على الرغم من ظهورها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي. وينطبق الأمر على نظريات أخرى في التعلم مثل النظرية البنائية ونظرية الأرصدة المعرفية التي تحمل رؤى مختلفة ترى أنّ المنهج الذي يُساعد على النجاح هو الذي يبنى وفق الثقافات التي يأتي منها الطلبة ويتضمن مواضيع من واقع حياتهم مما يُساعدهم على تحقيق النجاح ويُقلل من احتمالات الفشل لأنّهم يتعلمون أشياء يعيشونها ويحتاجونها.
إذا كان من يُعتقد أنّهم فاشلون وفق الإنجيل المدرسي. .لابد أن يكونوا خارج المدرسة في مرحلة مبكرة أو متأخرة من حياتهم..لابد أن يكون لهم مدرسة يطلق عليها "مدرسة الفاشلين" ليس من أجل مُمارسة ضغط عليهم ولكن من أجل فتح مسار ثانٍ لهم..ومنحهم فرصة في مكان لا يوجد فيه إلا أقرانهم. .وبالتالي سيكون لي فرصة للمُقارنة الحقيقية بين مدارس الناجحين ومدارس الفاشلين ..هل سيخرج من هذه المدارس من هو أكثر تفوقًا من الناجحين؟ الإجابة نعم فالفشل الذي نراه في الطلبة ربما لا يكون فيهم، إنما في المدرسة ومنهجها وإدارتها. .التي لا تزال تصنف الطلبة تبعاً لمقاييس ضعيفة إلى ناجحين وفاشلين. .وبالتالي تضع المجتمع في ورطة كبيرة جدًا. وتحرمه من طاقات ربما لو تهيأت لها السبل لأبدعت. .وربما لقادت إلى وصول قيادات مختلفة إلى مراكز صنع القرار، مما قاد إلى نجاحات في كثيرٍ من القطاعات التي تُعاني من منحهم النظام المدرسي صك النجاح في وقت هم أبعد عن النجاح وأقرب للفشل.
علينا أن نتأمل في أحكام الفشل التي نُطلقها على أولئك الذين لا يتقبلون النظام المدرسي الروتيني الذي يُعيق تلك الأفكار المختلفة لديهم.. ويقتل فيهم الرغبة للتمرد من أجل بناء خبرات واقعية. لأن مشكلتنا هي كما وصفها العالم الكبير الدكتور أحمد زويل -رحمه الله- وهي أننا لا نأخذ بيد الفاشل حتى ينجح بينما يقوم الغرب بذلك لأنّه يؤمن بقيمة الإنسان لاستمرار تفوقه وتقدمه في حين تؤمن مجتمعاتنا بأدوات أخرى ليس في مُقدمتها الإنسان .. ولذلك يعمل الجميع من أجل تجريد الإنسان من دافعيته ليكون إنساناً أكثر قدرة على المشاركة في تغيير مجتمعه والنهوض به سيما وإن كان مجتمعه يُعاني من قلة الموارد البشرية.
لكل الذين حكم عليهم بالفشل من زملاء الدراسة.. والذين تذكرتهم الأسبوع الماضي. أنا متأكد أنكم أصبحتم أكثر نجاحًا...فخبرات التعلم خارج أسوار المدرسة هي أكثر عمقاً... لكن ماذا سيفعل الذين يمرون اليوم بنفس الخبرات التي تعرضتم لها؟.