المواطنة بين التنظير والتطبيق

د.  واصل القعيطي

تمر الدول والمجتمعات في مسيرة حياتها بمراحل وتطورات عدة، فمنها المستقرة التي تنعم بالرخاء والرفاهية لفترات طويلة، ومنها من تعرضت لكوارث أو عصفت بها أزمات وقلاقل، وقد تنجو منها وقد لا، وذلك تبعاً لعوامل عدة. ومن أهم عوامل استقرار الدول ورفاهيتها مبدأ المواطنة وما يتعلق به. فبعد الحفر في الأصول اللغوية والاصطلاحية للمواطنة في الفكر العربي والغربي أمراً لا يقتضيه اختلاف النظم المرجعية التي استمدت منها المفاهيم فحسب ،بل يضاف إليه اختلاف حقول المعرفة التي كانت محصنا مباشراً لكل مصطلح وموجهاً لدلالته في الثقافتين العربية والغربية ، ومن ثم تتضح أهمية تأصيل المفهوم وبحثه في إطار المحاضن الفكرية بمنطلقاتها المرجعية والتي توجب على الباحث القراءة التاريخية لهذا المصطلح، إذ أقترن مبدأ المواطنة بحركة نضال التاريخ الإنساني من أجل العدل والمساواة والإنصاف ، وكان ذلك قبل أن يستقر مصطلح المواطنة وما يقاربه من مصطلحات في الأدبيات السياسية والفكرية والتربوية، وتصاعد مع حركة النضال وأخذ شكل الحركات الاجتماعية منذ قيام الحكومات الزراعية في وادي الرافدين مروراً بحضارة سومر وآشور وبابل وحضارات الصين والهند وفارس وحضارات الفينيقيين والكنعانيين .وأسهمت تلك الحضارات وما انبثق عنها من أيديولوجيات سياسية في وضع أسس للحرية والمساواة تجاوزت إرادة الحكام فاتحة بذلك آفاقاً رحبة لسعي الإنسان لتأكيد فطرته وإثبات ذاته وحق المشاركة الفعالة في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات ، الأمر الذي فتح المجال للفكر السياسي الإغريقي ومن بعده الروماني ليضع كل منهما أسس مفهومه للمواطنة والحكم الجمهوري ( الذي كان يعني حتى قيام الثورة الأمريكية في أواخر القرن الثامن عشر ، الحكم المقيد في مقابلة الحكم المطلق وليس الحكم الجمهوري كما نفهمه اليوم ) . وقد أكد كل من الفكر السياسي الإغريقي والروماني في بعض مراحلهما على ضرورة المنافسة من أجل تقلد المناصب العليا وأهمية إرساء أسس مناقشة السياسة العامة باعتبار ذلك شيئاً مطلوباً في حد ذاته ،وأفرزت تلك التجارب التاريخية معانٍي مختلفة للمواطنة فكراً وممارسة تفاوتت قرباً وبعداً من المفهوم المعاصر للمواطنة حسب آراء المؤرخين . وحتى في التاريخ المعاصر تنوعت إفرازات مفهوم المواطنة بحسب التيارات الفكرية السياسية والاجتماعية التي لايمكن قراءتها وفهمها ونقدها بمعزل عن الظروف المحيطة بها أو بعيداً عن الزمان والمكان بكل أبعادهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية والتربوية ، ومن ثم لا يمكن التأصيل السليم لمفهوم المواطنة باعتباره نتاجاً لفكر واحد مبسط وإنما باعتبار أنه نشأ ونما في ظل مخاضات فكرية متعددة تنوعت نظرياتها وعقائدها بل وظروف تشكلها على المستوى المحلي والقومي والدولي . ولأن قضية المواطنة محوراً رئيساً في النظرية والممارسة الديمقراطية الحديثة ، فإن تحديد أبعادها وكيفية ممارستها ينبع من الطريقة التي يمنح بها هذا النظام أو ذاك حقوق المواطنة للجميع ومدى وعي المواطنين وحرصهم على أداء هذه الحقوق والواجبات . فمثلآ  يذهب المواطن إلى مقر أحد الجهات الحكومية لإنجاز معاملة ما، وهو يعتقد أنها مستوفية للشروط المطلوبة، فيخيب ظنه برد من الموظف الحكومي بقوله أن (النظام لا يسمح) أو (هذا مخالف للنظام) أو (لا يمكن تجاوز النظام)، وحين يسأله ما هو النظام قد يجيبه بإجابة عامة أو لا يجيبه مكتفياً بالقول النظام وحسب، وعندها يقفل عائداً إلى منزله وهو لا يدري ما المقصود بالنظام على وجه الدقة، وقد يعتقد جهلاً منه أن كل ما يقوله هذا الموظف هو الحقيقة، في حين أن الأمر خلاف ذلك. وهذه الفرضية تتكرر يومياً وبصور وطرق مختلفة بشكل مباشر أو غير مباشر، ومرد كل ذلك هو عدم معرفة المقصود بالنظام.

ونوضح أن مصطلح (النظام) في هذا السياق هو المصطلح المرادف (للقانون) وحين نسمع عبارة مخالفة النظام فالمقصود به حتماً مخالفة القانون، فقد درجت العادة على المستوى الرسمي على استعمال كلمة النظام بدلاً من القانون، ولذلك خلفية تاريخية ذات بعد ديني مردها الحذر والخشية من استعمال كلمة القانون، والتي قد تعني القانون الوضعي وبالتالي الحكم بغير ما أنزل الله، وهو حذر في غير محله لإن الأمر لا يجب أن يقتصر عند المسمى بل إلى المضمون، فالمعيار في النهاية هو مطابقة مضمون ومحتوى القانون أو النظام لأحكام الشريعة الإسلامية من عدمه، لذا جاء استعمال مصطلح (النظام) كحل أسلم، ودون التوسع في ذلك يمكن تعريف النظام (القانون) بأنه "مجموعة القواعد العامة الملزمة المجردة المقترنة بالجزاء والمنظمة للسلوك في المجتمع" وهذه القواعد الملزمة تنظم سلوك الأفراد في المجتمع سواء كان مصدرها أحكام الشريعة الإسلامية أو السلطة التشريعية. ويهدف النظام في إطاره العام إلى تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع من خلال كفالة حقوق الأفراد ومصالحهم الخاصة مع مراعاة المصلحة العامة والتوفيق بينهما بما يحقق خير المجتمع كله. والنظام كأي نظام قانوني في العالم، يقوم على مبدأ (تدرج القاعدة القانونية) ويقضي ذلك بعدم مخالفة القاعدة القانونية الأدنى للقاعدة القانونية الأعلى

وبعد معرفة المقصود بالنظام، ومبدأ تدرج القاعدة القانونية، والسلطة الإدارية فما أحوجنا إلى تثقيف المجتمع قانونياً من خلال تذكيره بالحقوق يتمتع بها والواجبات الملقاة عليه، وحرياً بكل جهة حكومية وخاصة التي تقدم خدماتها للجمهور بشكل مباشر أن تصدر مدونة تتضمن جميع الأنظمة واللوائح والقرارات الإدارية والتعاميم التي تمس مصالح الجمهور، وتكون في متناول الجميع، فهي ليست سراً على الإطلاق.

فالدولة ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تنتج وتبني مقوماتها وتنهض بمقدراتها وتحافظ على مكتسباتها إلا على أسس معينة أهمها مبدأ المواطنة، فهي مكون أساسي من مكونات الدولة وجوهر التفاعلات التي ينتجها المجتمع ويحيا بها. فما هو مفهوم المواطنة، وكيف يمكن للأنظمة والقوانين أن تكرس وتعمق هذا المفهوم للمواطنين؟ المواطنة هي علاقة بين الفرد والدولة يحددها الدستور بما ينص عليه من حقوق وواجبات للمواطن. ومؤداها حب وإخلاص المواطن لوطنه وخدمته له في أوقات السلم والحرب، وتشمل المواطنة مفهوم الانتماء والذي يعني انتساب الفرد لكيان ما، يكون منصهراً فيه شاعراً بالأمان في أرضه، محباً له ومعتزاً بهويته، فخوراً بالانتساب له، وفي ذات الوقت منشغلاً بقضاياه وعلى إدراك بمشكلاته، ملتزماً بقوانينه وقيمه، مراعياً للصالح العام محافظاً على مصالحه وثرواته، غير متخلّ عنه حتى في أوقات الأزمات والمحن. لذا فالمواطنة هي البوتقة التي تنصهر فيها جميع الانتماءات لصالح انتماء واحد فقط هو الوطن، دون أن يعني ذلك إلغاء الانتماء للقبيلة أو الأسرة أو المنطقة أو خلافه، وإنما يعني عدم تعارض هذه الانتماءات للانتماء الأكبر للوطن. ورغم تحفظ البعض على مفهوم المواطنة لاعتقاده بتقاطعه مع الدين في عدة أوجه، إلا أن قضية البحث في أسباب الضعف بالإحساس بالمواطنة لدى بعض المواطنين تشكل مصدر تحدّ للدولة وإن لم تشكل ظاهرة مقلقة بعد ولله الحمد، وذلك للحفاظ على اللحمة والتكاتف بين المواطنين من جهة وبين المواطنين والدولة من جهة أخرى. لذا تثار قضية الانتماء للوطن من عدة أوجه دينية واجتماعية وسياسية وقانونية، فبحسب التعريف السابق للمواطنة وعند تطبيقه على أرض الواقع ،نجد هناك فجوة بين المفهوم والتطبيق، حيث لا يزال يشوب المفهوم الكثير من القصور إدراكاً وعملاً، لذا نحتاج إلى عمل مضنٍ وشاق من أجل الوصول إلى أعلى درجات المواطنة الإيجابية. وللدلالة على ذلك نضرب هنا بعض الأمثلة حول ما نقصده من قصور في تطبيقات مبدأ المواطنة في المملكة، ومنها:

لا تزال ثقافة الحقوق والواجبات غائبة عن الكثير من المواطنين، مع إيمان البعض منهم بعدم وجود المساواة في الحقوق والواجبات خاصة حين يرون نصوص الأنظمة تطبق على أشخاص دون غيرهم. ،وفي كثير من الحالات لا يشعر المواطن بالهم العام أو بالصالح العام لأسباب عدة، والمواقع والمنتديات في شبكة الإنترنت تكشف عن هذه الحقيقة المرة.

إن أول دور يقوم به القانون في تعميق المواطنة هو النص على إقرار مبدأ المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات أمام أحكامه.لذا تحرص دساتير أغلب إن لم يكن كل دول العالم على اعتبار جميع المواطنين متساويين في الحقوق والواجبات دون تمييز بينهم تحت أي مبرر كان. والنص على حقوق وواجبات المواطن في الدساتير والعمل بها هو جوهر المواطنة والضامن الأساسي لنتائجها، فلا مواطنة بدونها، فطالما الدولة ظاهرة اجتماعية لا يمكن أن تنتج وتبني مقوماتها وتنهض بمقدراتها وتحافظ على مكتسباتها إلا على أساس مبدأ المواطنة، فهي مكون أساسي من مكونات الدولة وجوهر التفاعلات التي ينتجها المجتمع ويحيا بها ، فمهما تعددت مناطق أو قبائل ومهما تعددت الانتماءات، يجب أن نجمع على أمر واحد وهو أن الوطن للجميع وأن الانتماء الأكبر يجب أن يكون له، تحت حكم الشريعة الإسلامية والقوانين الموافقة لها، وفي ظل المساواة التامة بين أفراده حيث لا تمييز بينهم إلا لسبب شرعي أو قانوني ..

[email protected]