نعمة من الله ترمى في البحر

 

د. عبدالله باحجاج

يقول الأجداد والآباء منذ عدة عقود لم نشهد خريف مثاليا خياليا فريدا بديعا؛ مثل الخريف الحالي، بكل جزئياته وكلياته، ومشاهده ومشاهداتها، وتجلياتها المادية والروحية على كينونة البشر، فمنذ أول يوم ولادته فلكيا، وهو يوم الحادي والعشرين من يونيو، لم نر الشمس حتى الآن، باستثناء شعاع بسيط خرج من الغيوم في استحياء مرة أو مرتين، ولفترة قصيرة، بينما يكون الحال على مدار الساعة الرذاذ والضباب والهواء العليل ودرجات الحراة المنخفضة والبساط الأخضر المنتشر في الجبال والسهول وحتى المدن، التسبيحات لله، والحمد لله، تتعالى في كل ثانية من المواطن والمقيم والزائر والسائح على السواء أمام استثنائية خريف 2016، إنّها رحمات الله على أهل عمان، وهذا شعور يتولد في كل النفسيات خاصة عندما تتم المقارنة بين هذه الرحمات وتجليات الأمن والأمان عليها وبين ما يعيشه محيطنا الإقليمي من حرارة ملتهبة ومن قتل وذبح.

واستشعار منّا بهذه الرحمات وتجلياتها على الدولة وعلى المجتمع، يستوجب منّا الشكر لله عز وجل من أجل ديمومتها مصداقا لقوله عز وجل في كتابه العزيز: (وسيجزي الله الشاكرين)، ويقول أيضاً في آية أخرى (ولئن شكرتم لأزيدنّكم)، فاللهم إنّ نعمك كثيرة علينا لا نحصيها، ولا نحصي ثناء عليك، ولن نقدر، وأنت سبحانك كما أثنيت على نفسك، وأنت سبحانك غني عن العالمين، فالحمد لله، والشكر لله على نعمائه التي لا تعد ولا تحصى، لكن، من يكون لديه مثل هذه البقعة من الأرض، استثنائية في الشكل والجوهر؛ هل ينبغي أن تترك مياه الأمطار تذهب للبحر دائما أم استغلالها سياحيا واقتصاديا؟ كيف يرفضها البشر ويستقبلها البحر؟ هذه ظاهرة لها عدة عقود وقد تناولناها في مقالين سابقين، غير أنّ الكميّات الكبيرة التي انفجرت بها العيون مؤخرًا في كل ولايات ظفار، تلزمنا بفتح هذا الملف مجددًا، ونتساءل عن دور المؤسسات الحكومية؟ لو لم تكن هناك مؤسسات حكومية متخصصة، لقلنا: لو كانت.. ولما كانت، فماذا عسانا قوله؟ هل نتساءل لماذا؟ أو كيف؟ القضيّة أكبر من هذين التساؤلين، وتعكس فعلا أزمة إدارة داخل مؤسسات تُعنى مباشرة أو غير مباشرة بهذه القضية، وتعكس أزمة فاعلين مهما كانت انتماءاتهم الوظيفية أو الاجتماعية الجهوية والمركزية، يصيبنا القهر، فعلا، مشاهدة مياه العيون والشلالات في خريف 2016 حتى تلك العيون التي لم تنفجر منذ عقود، وحتى تلك العيون التي لا تنفجر إلا بفعل أنواء مناخيّة شديدة. قد انفجرت الآن في مشاهد جماليّة تضفي لمسات ساحرة على جماليات الخريف العديدة والمتنوعة، لكن عدم الاستفادة من هذه المياه، لا يمكن السكوت عنها، وهذه قضيّة ليست جديدة، بل إنّها قديمة، وبفعل المضارع المستمر، والسبب النمطيّة والتقليدية، وكل من يزور حاسك، ويشاهد شلالاتها الدائمة، ويعرف أنّها تذهب للبحر ومنذ عدة عقود، لابد أن يصيبه القهر من العقم الإداري ومن عجز الفاعلين وسلبياتهم، منذ أن فتحنا عيوننا على امتداد جغرافيتنا الإقليمية، ومياه شالات،، نطف، الشهيرة تسقط من أعلى الجبال على مدار الساعة يوميًا في مشاهد طبيعية يخيل إليك منذ الوهلة الأولى أنّها من صنع البشر للزوم السياحة، لكنّها منّة ورحمة إلهيّة، وكرم مستدام من ربّ العباد لإنسان هذا البلاد، فكيف لم نحافظ عليها؟ قد نعذر الأجداد، أمّا في عصرنا الحديث لا عذر، بل إدانة للكل، كلما نمر عليها في كل زياراتنا للشرق الظفاري أو للوصول إلى الشويميّة بعد أن تمّ شق الجبال للزوم الطريق البحري في منجز من أروع وأعظم إنجازات النهضة المباركة، ونشاهد مياهها تذهب للبحر، نتساءل، هل يعقل لم يمر وزير أو وكيل؟ وكيف تقبل الإدارات المحليّة والجهوية استمرار هذا الوضع حتى الآن؟ والحال نفسه لمعظم مياه العيون التي الكثير منها يجري فيها المياه بصورة دائمة وعلى مدار العام، هل هذا الوضع في كل عمان أم هي ظاهرة سلبية في محافظة ظفار؟

تنتابنا الحسرة والامتعاض على هدر هذه المياه وعدم الاستفادة منها، فماذا يمكننا أن نرجع السبب؟ الإهمال وعدم اللامبالاة، الكل مدان، لأنّه صامت ولم يحرك الجمود، لن يقنع أحداً بأننا لسنا بحاجة إليها في الحاضر والمستقبل، ولن يقنعنا أحد بأن هذه النعمة لن نُسأل عنها يوم القيامة، إذن، من يحاسب جهات التقصير المباشرة؟ وأين المجتمع المدني الذي ينبغي أن يكسر حالة الجمود الحكومية؟ انفجار مياه معظم إن لم يكن كل العيون التي عددها (360) في خريفنا الحالي، يعمق الإحساس بمسؤولية التقصير والإهمال، فأين الاستفادة من هذه المياه؟ صحيح هناك بعض السدود التي أقيمت على مجرى السيول، لكنّها سدود حماية للمدن، وحتى هي تكتنفها المخاطر المستقبليّة، فمجاري السيول غير مهيأة لأسوأ الاحتمالات، لعدم جاهزيتها، فالعمل فيها يسير ببطء شديد، كالسلحفاة، كما أنّها لا تحتجز كل المياه بما فيها مياه العيون – سنتناولها في مقال مقبل للأهمية – فحديثنا الآن ينصب حول الاستفادة المثلى مما منحنا الله سبحانه وتعالى، فهل نرميه في البحر يا حكومة؟ وهل سنكون بذلك قد شكرنا الله عز وجل على هذه النعمة؟ سياحتنا في توجهاتها الجديدة في أمس الحاجة إليها، فمن خلالها يمكن إقامة حدائق مائية سياحية في بعض الولايات تكون مقصدا للسائحين خلال المواسم السياحية، والزائرين من قبل أهالي الولايات العشر في المحافظة وسكانها أسبوعيا، وقد تتغير وجه الحياة فيها، فلو أخذنا وادي دربات مثلا، فهو عبارة عن حديقة طبيعية ذات مناظر ساحرة تتخللها مجموعة شلالات تنفجر خريفيًا، فلو جعلناها حديقة طبيعية على مدار العام بدلا من أن تذهب مياهها كل عام البحر القريب منها؟ وكذلك لو أقمنا حديقة في حاسك استفادةً من تلك المياه، لصنعنا مناطق جذب سياحية على المدار، السلطة القوية لن يقف أمامها أي جماعة أو فرد معرقل ما دامت تسعى إلى تحقيق المصلحة العامة التي تخدم الفرد والجماعة، وعندما تتحجج أية سلطة بقوة الفرد والجماعة، فهي بذلك تضعف سلطتها، بل هي ضعيفة في ذاتيتها، كما أنّ المستقبل الديموغرافي لبلادنا في حاجة ماسة كذلك إلى هذه المياه، فتعداد سكاننا سوف يصل عام 2040 إلى أكثر من ثمانية ملايين، وستكون هناك حاجة الى إضافة 25.5 بليون جالون مياه مع إنفاق 151 مليون ريال عماني لإنتاج المياه المنزلية وفق تقديرات رسميّة، إذن، هل ينبغي أن نستغني عن مياه الخريف التي أصبحت تسيل على إثرها الأودية والشعاب؟ وكيف لا نفكر في استغلالها للزراعة كذلك؟ وهذا ملف ملغم بالاختلالات البنيوية، ويحتاج لوحده لمقالات، لكننا نؤكد هنا على انتفاء حجيّة النقص المائي، فالمياه موجودة، وتؤكد على ذلك الكثير من الدراسات، فمثال آخر، كهف طيق الذي يعد أكبر كهوف العالم، ففي باطنه بحيرات مائية وأنهار وشلالات.. وكذلك منطقة شصر الرابضة كذلك فوق بحيرات مائية.. والأمثلة كثيرة، كل ما نخشاه يا وطن هو زوال مثل هذه النعم بسبب إهمالنا وتقصيرنا في المحافظة عليها، فكيف ترفض أيّها الأنسان نعمة الماء؟ وكيف يقبل البحر استقبالها عوضا عنك؟ هناك تجارب كثيرة في تونس وسوريا والمغرب.. فماذا لا نستفيد منها لاستغلال مياه العيون والسيول؟ قد نتناولها مستقبلا.