سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (45)

السياحة

 

 

 

د. صالح الفهدي

سألني ابني ونحنُ على سفح جبلِ باينbaiyun  الواقع في مدينة جوانزو Guangzhou  ثالث أكبر المدن الصينية: لماذا لا تكون جبال صلالة كهذا الجبل؟ أجبتهُ: وأنا أسألُ نفس سؤالك..! صعدنا على الجبل بواسطة عربات الأسلاك telefreak، وألفينا سفحه وقد رصِّفت أرضياته بالأسفلتِ، وأصنافٍ مختلفة من البلاط والحجر، وهُيّأت فيه مواقعَ مطّلة على المدينة، والمقاهي، ونادٍ للترفيه والألعاب والحدائق. يمكنُ القولُ هنا بأنّ المقوّمات السياحيةِ لأيّة بلدٍ من طبيعةٍ خلاّبة، وتضاريس جيلوجية غنيّة، وشواطئ جميلة، وصروح تاريخية، ومدن عريقة، وحدائق غنّاء لا تغني إن لم تدعّمها البنية التحتية بمقوّمات سياحية صلبة. فماذا يعني أن تمتلك المقومات الطبيعية التي تفتقد إلى أبسط أبجديات السياحةِ من طرقٍ، وخدماتٍ، وسكنٍ، وغير ذلك؟! أحد الذين جالوا في سياحةٍ محليّة رجعَ وهو يشكو من فقدان أبسطَ الخدمات السياحية التي لا غنى للسياحةِ عنها لكي تزدهر. ومنذ بضعة أعوام زارني ضيوف من أوروبا فأخذتهم في جولة لبعض المدن التي عُرفت بتاريخها البحري العتيق فلم أجد إلا سفينة مائلةً تلفحها الشمس، ذكّرتني بسفينة صحار الراسية على أحد الدوّارات وقد امتصَّ وهجُ الشمس نضارتها. هذه السفينة التي طالبتُ بوضعها في متحفٍ بحري سيدرُّ للبلادِ دخلاً كبيراً لا تزالُ تجلدها سياطُ الشمس اللافحة لتتشطّر بعد لأيٍ من الانتظار فتصبح مجرّد ركامٍ سيحرقه عمّال النظافة في أحد المرادم..!! في المُقابل فإنّ سنغافورة قد بنت متحفاً بحرياً خاصاً للسفينة "جوهرة مسقط" التي أهديت لها من قبل السلطنة.

يجب أن يُناقش موضوع السياحة بمنتهى الصراحة وتتخذ فيه قرارات بمنتهى الجرأة لأنّ السياحة ليست مجرّد ترفيهٍ وتسلية بل هي مصدرٌ من مصادر الدخل الوطني، خاصة في وقتٍ انكشف فيه الغطاءُ عن أثر النفط على سيرورة التنمية الوطنية. السياحة أصبحت وجهاً للثقافة الوطنية ومصدراً من مصادر تصدير القيم التي يمتلكها أيُّ شعب. يقول Aldous Huxley "السياحة اكتشاف أن الجميع مخطئون في رأيهم عن الدول الأخرى" وهذا بالفعلِ ما يتضّحُ من الانطباعات الرائعة التي يظهرها السائحون العرب قبل الأجانب عن بلدنا خاصة تلك المتعلقة بأخلاقيات أهله. هذا الأمر الذي يدفعنا قُدُماً لوضعِ هذا القطاعِ موضع العنايةِ الرفيعةِ في الخطط الإستراتيجية للبنية التحتية للوطن.

يستوجبُ السؤال التاريخي في قطاعِ السياحةِ عدّة محاور من أهمّها: مستوى القيادات التي تتولّى القطاع السياحي وكفاءتها في إدارة هذا القطاع الحيوي بامتياز وجدارة. القيادة هي أُسُّ التطوير فإن توفرت الكوادر المناسبة فإنّ مستوى توقعات الأداء سترتفع وإن لم تكن الكوادر مؤهلة للقيادة فإن التوقعات ستتراجع مع مرور الوقت نظراً لعدم حدوث تغييرات على الأرض..! ولا يضيرُ أي وطنٍ أن يستفيد من أيّة كوادر ذات خبرةٍ وإن كانت لا تنتمي إليه، فعدّةُ بلدانٍ أُخرى نهجت هذا المنهج الذي رفع حاجز الحصريّة في تولي المناصب العليا لصالح كفاءات استطاعت أن تحصد المكاسب للأوطان التي ألقت على كاهلها المسؤولية. يقول Bill Gates صاحب شركة  Microsoft"العامل الأساسي لنجاحنا هو دائماً توظيف الكوادر المؤهلة".

أما المحور الآخر الرؤية والإستراتيجية لقطاع السياحة وهي رؤية شاملة تتضمن العناصر المادية والثقافية لهذا المجال الخصب، وذلك يستوجب إحصاء الإمكانات التي يمتلكها أي وطنٍ من أجل حصرها ووضع الخطط المناسبة لتطوير كل مجال بالصورة التي تميّزه وتكسبه صفة فريدة يمتاز بها عن غيره في بلدانٍ أُخرى. يقول الكاتب Raymond Bonner" إذا فكرت في إندونيسيا والسياحة فأول ما يتبادر إلى ذهنك هو على الأرجح منطقة بالي. فكر في عطلة لممارسة رياضة الغولف، إن معظم الناس يحلمون بأسكتلندا أو أيرلندا، لكن مرافيء إندونيسيا ستبقى واحدة من الأسرار الدفينة في عالم السفر: إنها الجنة للاعب الغولف.". هذا المحور يعني التخصصية إذ لا يُمكن لأيّ بلدٍ أن يوزع اهتماماته في كل شيء، وإنما هي التركيز على مجالات معينة لكي يبرز فيها بصورةٍ لافتة وجاذبة ليصبح رمزاً عالمياً فيها. ما الذي يتمتع به وطننا إذن من هباتٍ ربّانيةٍ، وصفاتٍ إنسانية، وسماتٍ حضارية؟! هذا ما يجب أن يُحصر ويوضع في استراتيجيات عملية ذات خطوات واضحة.

أما المحور الثالث: فهو ترسيخ مفاهيم السياحة لدى المسؤولين عن هذا القطاع والمجتمع عامة لكي تصبح ثقافة ذات طابعٍ رفيع يأخذ في الاعتبار أمرين: الأول هو الحفاظ على قيم المجتمع، وتقديم الموروث بصورة حضارية عصرية للآخر، أما الثاني فهو معرفة طبيعة السائح والعوامل الجاذبة له فكل شعبٍ في عمومه له ذوقه وتفضيلاته وتوجّهاته الثقافية التي يختلفُ بها عن غيره.

إنّ الاهتمام بالسياحة لا يتوقف في حدود الكلامِ، والخطط وحسب بل إنّه يحتاج إلى حراكٍ وطني كبير في مجالات مختلفة ابتداءً من وضع المخططات التي ترتقي بهذا القطاع إلى توظيف الكفاءات المناسبة، مروراً برصد الموازنات اللازمة وتوفير كل العناصر التي تكوّن البنية الأساسية.

المحور الرابع: القوانين والتشريعات الخاصة بالسياحة والاستثمار فيها وهو محورٌ إما أن يُعيقَ بسبب التعقيد في الإجراءات والقوانين والتشريعات وإما أن يُسهل فيفسح المجال للمستثمرين لكي يوظفوا أموالهم في خدمة السياحة في بلدٍ ما.

إنّ لدينا من الأماكن التي تتمتع بميزات سياحية فريدة، غير أن الاستغلال السياحي أبعد ما يكون عنها والأمثلة في ذلك لا تحصى ولا تعد..!! فضلاً على أن هذا الأمر لا يترافق بالصورة الملائمة مع أهم ميزة للسياحة وهي الاستقرار السياسي واستتباب الأمن الاجتماعي فهذه عوامل أصبحت مصدر جذب للبشر في هذا العالم المضطرب الذي يهرع إلى كل واحة أمنٍ واستقرار.

أما السياحة الداخلية فيتحتم أن يكون لها قصب السبقِ في وطنها كجزءٍ لا يتجزأ من كيانها الثقافي الذي يفترض أن تتشرّب به من خلال التراث المادي والمعنوي والبيئة وما تشمله من عادات وتقاليد وطقوس ومفاهيم، ووفق هذا الفهم فإنّه لا يعقل أن يجد المواطن معاملةً تفوق تكلفةً السائح الأجنبي. هذا الأمرُ لا يبدو أنه مفهومٌ لدى المواطن كما أنّه ليس مستساغاً ولا مقبولاً أيضاً..!! إذ إن المواطنة في حدِّ ذاتها تركيبة معنوية لا بد وأن يشترك فيها البناء الثقافي للفرد، والسياحة جزءٌ مهم من هذا البناء لهذا يصبح من الأهمية بمكان منح المواطن الامتياز في السياحة الداخلية وتشجيعه بدلاً من سفره إلى بلدانٍ أخرى أقل تكلفةً من بلده..!

أوجزُ القول بأنّ السياحة إن لم تلاقِ الاهتمام المتنامي، والإرادة الأكيدة، فإنّها ستظل مجرّد دعايات لا تضيف إلى صندوق الدخل الوطني شيئاً..! السياحةُ فكرٌ عصري، وقطاعٌ حضاري يجبُ التعامل معه وفق سياسات عالية التخطيط، نافذة القرار، حازمة التنفيذ، بعيدة الأثر. السياحة مشاريعَ واقعية، وبُنى تحتية ماثلة للعيان، وسلسلة مترابطة من المرافق والخدمات حينها تصبحُ بالفعل قطاعاً يعوّل عليه مسؤولية الإسهام في ناتج الدخل الوطني. أما أن تصبح السياحة مجرّد شعاراتٍ تعلّق، وأغانٍ تردد، فلن يكون لها مردود على الوطن بل وستكون عبئاً عليه.