وفي القلوب دروب

 

 

عائشة بنت أحمد بن سويدان البلوشية

 

أرقبُ شاشة جهاز قياس ضغط الدم ونبضات القلب، والوجل يفعل بقلبي الأفاعيل، فتلك أُمي التي ولدت أبي على ذلك السرير الأبيض، وتلك القسطرة الخاصة بالمحاليل مغروسة في وريدها، وهي تنظر إليَّ بعين تحاول بث الطمأنينة في نفسي، رغم ما أقرأه في مُقلتيها، فأخفي نشيجًا يكاد يقضي عليّ، وادخره إلى خلوتي السريعة، ﻷطلق لمآقي العنان، فتتنفس دمعًا حارقًا، كيف لا وتلك الغالية هي من قام بتربيتي بعد جدي -رحمه الله-، قلبها الغالي اليوم يئن منهكاً من كثرة من مروا خلاله، آثار خطواتهم تركت ركاماً عبر السنين، فقد عرفت بأنها أم الجميع، رزقها الله أربعة أبناء، فقدت اثنين منهم في طفولتهما، وبقي لها اثنان -أطال الله في أعمارهم جميعا-، ولكنها قامت بتربية كل من وقع في محيط حياتها اليومية، من إخوة زوجها إلى أبنائهم إلى أحفادها مروراً بأبناء إخوانها، والكل يتذكر لها هذا الجميل، وكم من أحداث مرَّت بقلبها كما يمر على أيّ أم، تقلق وتخاف وتُفجع وتتأثر وتظل صامدة بإيمانها بأن الله لطيف بالعباد؛ لا أنسى تلك الليالي السبعينية وأنا لم أبلغ السادسة بعد، وقد احتلت الملاريا جسدي الضئيل، حيث كنت أسكن وإياها غرفة طينية صغيرة في الدور الثَّاني من بيت أخيها الشيخ سالم بن راشد -أطال الله في عمره- (البيت العود)، ووالدي -رزقني الله حسن بره- هناك حيث الأفق البعيد في مهام عمله وأداء واجبه نحو الوطن، وكنت أحس بأنني أنتزع أحشائي من شدة الحالة المرضية التي أمرُ بها، رغم حداثة سني وطفولتي كنت أحس بأنني اقترب من النهاية، ولكن لم تتأفف هذه الحبيبة ولم تضجر من حالتي تلك، بل كانت مرتعدة الفرائص لئلا أموت بين يديها، كانت ليلة طويلة وكأنّها الدهر كله، وفي الصباح قامت باستئجار سيارة مُتهالكة، وحملوني في لحاف نومي جثة لا يزال قلبها ينبض، وأخذتني إلى عيادة "القم"، حيث إنّ المستشفى كان صعب المنال حينها، ويبدو من خلال الصور المشوشة التي تتواتر إلى ذاكرتي، بأني أصبت بالجفاف بسبب الارتفاع الشديد لحرارتي، وفقداني للسوائل، فوضع جسدي على طاولة فحص جلدية سوداء كئيبة، وعلى الفور غرسوا السقاية (المحلول) في وريدي، ولا أدري كم ظللت على ذلك الحال، ولكنني كنت قاب قوسين أو أدنى من الهلاك بسبب هذا الوباء حينها، وظلت تحوم حولي وهي تتمتم: "ماذا سأقول ﻷحمد عن الأمانة التي ائتمنني عليها؟"...

 

مشهدان انعكست فيهما الظروف والمُعطيات، وتشابهت المشاعر الوجلة فيهما، شتان بين السبعينيات وعام 2016م، كان قلق الأم ينهش قلبها، فماذا ستقول لولدها عن ابنته، وماذا بيديها أن تفعل لكي تنقذني من براثن الموت، وها هو اليوم قلق الابنة ينهش خافقي عليها، ورغم توفر المُعطيات العلاجية اليوم، يظل ذلك القلق يتسرب إلى قلوبنا عليهم، فهم حمائم دورنا وبركتها، تجد الهيبة والسكينة تحوم حول أماكن تواجدهم وهم بيننا، ورغم أنّ البعض قد يضيق ذرعًا بملاحظاتهم أو توجيهاتهم، إلا أنّه عندما يخلو بنفسه يبتسم بحب وحنو ويدعو لهم بطول العمر، وليسألوا وليوجهوا ما شاء لهم...

 

انتهزت فرصة تواجدي في مستشفى عبري فذهبت لعيادة من كان شاغلاً لأحد أسرته البيضاء، فتتناهى إلى أذني تلك التهليلات الممزوجة بتنهيدات الألم، ومنهم من غيبت الغيبوبة صوته ولكن حركة إصبعه توحي بتشهده أو تسبيحه ليُعلن أنّه لا يزال حاضرًا في الدنيا، فأخذتني رجفة بسبب جلال المواقف الإنسانية الرائعة، فقد اكتظت الممرات والأجنحة بالزوار، فالقريب والغريب يلقي السلام ويسأل عن العلوم والأخبار ويدعو للمريض بالشفاء، والكل يمد يد العون لمن كان في حاجة للمساعدة من المرضى، وبعد أن بدأت قمة ذروة الزيارات في  الانحدار، وصلنا إلى جمال تلك الدقائق قبل أذان المغرب، عندما بدأت النسوة القائمات بالتجمع في الممر الخلفي في انتظار موعد الإفطار، فقد انتهت أيام العيد وصامت العديد منهن الست من شهر شوال، فتنادين للإفطار والصلاة، أقترب منهن مشاركة إياهن وأنا أرقب تلك الأجواء الجميلة، وأحمد الله تعالى على هذه النعمة العظيمة، نعمة التآلف والتعاون والتواد، وأسأله أن يُديمها علينا وعلى الإنسانية جمعاء...

 

إنَّ القلب عضلة بحجم قبضة الكف، يتكون من غرف تعرف بالبطينين والأذينين وعدد من الشرايين والأوردة والصمامات، يقوم بوظيفة فيزيولوجية وهي ضخ الدم المحمل بالأوكسجين إلى أعضاء الجسم، ويضخ الدم المحمل بثاني أكسيد الكربون القادم من الأعضاء إلى الرئتين، وسبحان الخالق الذي جعله ينبض من 60 إلى 80 نبضة في الدقيقة لدى البالغين، أي بمعدل مائة ألف دقة في اليوم الواحد، ليضخ حوالي 5.7 ليترات من الدم يوميًا، والعجيب أنَّ القلب جاء ذكره في القرآن الكريم في عدد من المواضع، وربط بينه وبين التعقل والحالات النفسية، وحقيقة فإنّ القلب الذي يُغذي أكثر من 300 مليون خلية في جسم الإنسان، يخلق في الجنين قبل الدماغ، حيث يبدأ القلب في ضخ الدم بعد 21 يوماً من الحمل، ويقول الأطباء بأنّ القلب هو من يوجه الدماغ، وفي إحصائية عجيبة قرأت بأنّه عندما يصل عمر الإنسان سبعين عاماً يكون قلبه قد ضخَّ حوالي مليون برميل من الدم!، وللقلب ذبذبات يرسلها ويتلقى من غيره ما يجعله يحس قبل وقوع الأمر، أو استلطاف البعض دون الآخرين، وهناك الكثير من القصص التي يُمكن الاطلاع عليها لمن قاموا بزراعة قلوب لبعض المرضى، ويظهر خلال الأحداث التغيرات النفسية والعاطفية التي حدثت لهم بعد الزراعة؛ وخاتمة القول أنّ قلوبنا أوعية بالغة الحساسية، نستطيع توجيهها بما نقوم بملئها به، فإذا عمرناها خيرًا فهو خير لذواتنا ومحيطنا، وإن كان غير ذلك فالوبال يعود علينا قبل كل شيء، لذلك فمن اللطيف أن نتدرب على ملء قلوبنا بالإيجابية وحب الخير والعلم والعمل، وتجنيبها آفات السلبية والسوداوية، ولنحرص على تلك الدروب التي تمر داخل قلوبنا، حيث نمسح تلك الخطوات الثقيلة التي قد تترك آثاراً مؤذية بها، ولنزرعها بورود الخير والأخلاق الراقية الخضراء...

توقيع:" لقد كرهت كل لحظة من لحظات التدريب، لكنني كنت أقول لنفسي: اتعب الآن وعش بطلا بقية حياتك"محمد علي كلاي".