د. صالح الفهدي
قال لي عراقي: إذا كان هذا هو شكل الديمقراطية، فالديكتاتورية أفضل...! قالها الرّجل بمرارة شعب عانى ممن جاؤوا وذوّقوا اسم الديمقراطية بأفواف من ورد...! بعد أن سوّوا بالأرض، وذلّلوها من أجل أن تسير الدبابات دون أن يعثرها حجر، أو يعيقها بشر...! الديمقراطية التي ظنّها كاظم الجبوري محطّم تمثال صدّام أنها جاءت على صحن من ذهب، ثم إذا به بعد هذه السنين يصرّح لقناةBBC البريطانية أنه نادم على فعلته تلك فقد ظهر له بعدها مائة صدّام..! إذن فإن المنطق هنا سار على وتيرة مخالفة للمعتقد الشائع فهو يوافق قول الشاعر والروائي الأمريكيCharles Bukowski: "الفرق بين الديمقراطية والديكتاتورية أنك في الديمقراطية تصوّت أولا ثم تتلقى الأوامر لاحقا، أمّا في الديكتاتورية فإنك لا تضيّع وقتك في التصويت"...!
كيف إذن جرى خداع الشعوب بهذه الطريقة السياسية التي هي لدى بعض المجتمعات كلمة حق يراد بها باطل، ظاهرها التّودد وباطنها النفاق والرياء...!! شعوب انساقت وراء أوهام ساقها بعض المحرّضين من الذين أرادوا تملّك السلطة كيفما كان السبب، فليكن الرعاع في نظرهم هم الضحيّة، وليكونوا هم الجواد الذي يمتطونه من أجل الوصول إلى كرسي الرئاسة...!
الديمقراطية ليست كلمة تقال إنّما هي قواعد ثقافية تترسّخ في المجتمعات الناضجة التي رضعت حليب الديمقراطية منذ نعومة أظفارها لتفهم مغزى ما تقرّره ومعنى ما تصوّت له وإلاّ فإن وضع الصوت في الصندوق ليس ميزة، لأن المواطن الذي يصوّت وهو لا يعي أبعاد قراره يغامر بمستقبل وطنه..!
وفي هذا السياق تقول رئيسة جمهورية كوسوفا السابقة Atifete Jahjaga: يجب أن تبنى الديمقراطية من خلال المجتمعات المفتوحة التي تتقاسم المعلومات. عندما تكون هناك معلومات، يكون هناك تنوير، وعندما يكون هناك نقاش تكون هناك حلول. أمّا عندما لا يكون هناك تقاسم للسلطة، فلا سيادة للقانون، ولا مساءلة، وحينها يسود سوء المعاملة والفساد والقهر والسخط".
لننظر أولا إلى أكبر دولتين ديمقراطيتين في العالم: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا. في أمريكا انتزع مرشح الحزب الجمهوري موافقة أعضاء الحزب البارزين رغما عن أنوفهم بالرّغم أنّه يدعو لأعراف وقيم لا تتماشى مع الأعراف التقليدية للحزب الجمهوري، فهو مرشّح غريب الأطوار، كثير الزلاّت، لا يفقه في السياسة، ولا يصلح لإدارة أقوى دولة في العالم ومع ذلك لم يستطع أي أحد من الأعضاء المؤثرين في الحزب إعاقة تقدّمه في الترشيحات رغم ما بذلوه من حيل، فأصبح يمثّل الحزب وهو ما يؤشر إلى خلل كبير في معايير الترشيح؛ دعا البعض إلى أهمية إعادة النظر فيها وتقويمها...! إذن ها هي الديمقراطية تدفع دونالد ترامب كما دفعت سابقا أدولف هتلر إلى سدة السلطة، وفعل ما فعل من إشعال الحروب العالمية التي حصدت ملايين الأرواح، وقضت على مقدرات الأوطان. ويا للمفارقة فالديمقراطية التي تهدف إلى مساواة الحقوق والتي مكّنت رئيسا أسود في بلد لا يخلو من العنصرية، إذا بها اليوم تدفع من يصرّح علنا بالعنصرية ويجد أنّ ذلك التصريح هو الذي يدفعه قدما إلى سدّة السلطة...!
أمّا بريطانيا فهناك أمران يتعلقان بالديمقراطية يجدر التوقف عندهما: الأوّل تصويت أغلب الشعب البريطاني (33 مليون) لصالح قرار الخروج من بريطانيا ويتم ذلك بالطريقة التي تفاخر بها سيدّة الديمقراطية الأولى في العالم عبر الصناديق، حيث كانت النتائج صاعقة ومؤلمة حتى لبعض الذين صوّتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي...! وليس خفيّا أن بريطانيا لم تكن مستعدّة للخروج كما صرّح بذلك وزير الخارجية الفرنسي...! وهو الذي يدفعها إلى تأجيل العمل بالمادة (50) من اتفاقية الاتحاد الأوروبي...! هاهي الديمقراطية تفرض على أم الديمقراطية خروجا دون استعداد بحجّة أن الشعب أراد ذلك.. فما هي المعلومات التي قدّمها أنصار الخروج لهذا الشعب لكي يصوّت بالخروج وعلى النصف الآخر وعلى الوطن تكبّد نتائجها على المستوى البعيد...!!
الأمر الآخر هو تقرير جون شيلكوت، رئيس اللجنة البريطانية المكلفة بالتحقيق في ظروف وملابسات التدخل البريطاني في حرب العراق عام 2003 والتي شكلت قبل سبع سنوات حيث أوضح فيه أنّ "المخططات البريطانية لفترة ما بعد اجتياح العراق عام 2003 كانت غير مناسبة على الإطلاق".. فمن خوّل هذا الرئيس المنتخب ديمقراطيا (توني بلير) لكي يدخل في أتون حرب يجني العالم شرورها حتى اليوم بعد أن تشظّى العراق، وأبيد وهجّر سكّانه، وأتلفت حضارته، واستباحته الدواعش وكرا لها...!! كان المنطق هو "حماية الديمقراطية" وخلع الديكتاتور من كرسي الجبروت.. فماذا حدث فيما بعد...؟! سوريا هي الأخرى تصارع مصير ما حدث في العراق، وكلّ يلقى باسم حماية الديمقراطية حطبا عليها ليدمّرها ويحرق الأخضر واليابس فيها حتى لا تعود سوريا الجمال والجلال والبهاء...!
ماذا فعل بالشعوب من تضليل باسم الديمقراطية إذن...؟! أليس كما يقول الشاعر "كالمستجير من الرمضاء بالنّار"...؟! هربت الشعوب/ الضحية من لفح الديكتاتورية إلى نفح الديمقراطية لتجد أنّها وقعت في هاويتها التي ليس لها قرار...!!
ليست الديكتاتورية حلاّ بالطبع، لكن هناك قناعة راسخة بأن إدارة بعض الدول يتطلب الحزم والقوة مما يروّج له البعض ديكتاتورية غاشمة.. فرق بين الاستبداد والحزم، فرق بين القوة والظلم، فرق بين الضبط والاختناق. لقد غرّر ببعض المنفلتين من عقال الوطنية أن يرفعوا عقائرهم بحريّة منفلتة ليس لها ضابط بحجّة أنها الديمقراطية وهي الميوعة والتفلّت.. وسوّغ لبعض المغرضين أن يرسموا النعيم للشعوب على أنّه الفردوس المفقود فإذا به الجحيم المشهود...!!
يقول الديكتاتور التاريخي أدولف هتلر" إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم أنهم معرضون للخطر وحذّرهم من أنّ أمنهم تحت التهديد، ثم شكك في وطنية معارضيك".. أليس هذا أيضا ما يفعله - دون أن يصرّح به - بعض الساسة الذين يتشدّقون بالديمقراطية فما الفرق إذن بين الإثنين...!!
القضيّة هنا ليست قضية مواجهة بين فضائل وقبائح الديمقراطية والديكتاتورية، وليس طرحا لسؤال التفضيل، وليس إطراء أو ذما في أي نظام حاكم، وإنّما هو قول في هذا التضليل الذي يمارس باسم الديمقراطية، وفي القواعد التي قامت عليها واستنساخها من لدن بعض الشعوب دون أن يكون لها أسس مكينة في ثقافتها.
نقول نعم للديمقراطية ولكن إذا كانت الديمقراطية هي التي تدفع بالجهلة إلى البرلمانات، وبالعنصريين إلى الرئاسات، وبالحمقى إلى قيادة المؤسسات فإنّها على المحك، وإنّها تعاني من اختلالات جسيمة، ويجب بالتالي على المجتمع الدولي أن يعيد النظر في القواعد التي قامت عليها. ولأجل ذلك يصدق كلام الرئيس الأمريكي الأسبقFranklin D. Roosevelt: لا يمكن للديمقراطية أن تنجح إلا إذا تم إعداد أولئك الذين يعبّرون عن اختياراتهم بحكمة ورشدْ. إنّ الضمانة الحقيقية للديمقراطية هو التعليم.
نعم التعليم الراقي المبادئ، السامي المُثل، العالي المآرب، هو الذي يشكّل القاعدة المكينة للديمقراطية؛ أما غير ذلك فضرب من التضليل والإيهام والتمويه.