سياسة الأبواب الزجاجية المفتوحة

 

د/عبد الله عبد الرزاق باحجاج

كيف تمكنت المُديرية العامة للقوى العاملة في محافظة ظفار من تحويل مسار الرضا الاجتماعي عن خدماتها من النقيض إلى النقيض تمامًا؟ من عدم الرضا إلى الرضا، وفي فترة زمنية قصيرة جدًا، وهذا النجاح يفتح لنا الآفاق الرحبة، كما يطرح مجموعة تساؤلات ظرفية مُلحة عن قُدرة المسؤول على تحقيق النجاح رغم ظروف البلد المالية، وكذلك حول أهمية تدوير وتغيير النُخب القيادية لضرورات صناعة النَّجاح من أجل كسب الرضا الاجتماعي على خدمات الوزارات الآن بالذات، وذلك للمساهمة في إدارة مرحلة من أصعب المراحل التي بها البلاد، وكذلك تطرح، قضية اختيار الشخص المُناسب في المكان المُناسب، فكيف تمكنت هذه المديرية من تحقيق هذا التحول الآن بالذات؟

وراء أي نجاح، يكون دائماً قيادة مُبدعة، وحجم النجاح وماهيته، يعكس لنا طبيعة هذه القيادة وقدراتها وإمكانياتها، وعلى رأسها تأهيلها ومستوى وعيها، وهذا الشأن ينطبق على النجاحات التي تحققها الآن المُديرية العامة للقوى العاملة بظفار، والتي تدفع بنا إلى تخصيص هذا المقال بعد أن بهرتنا بالأفكار والآساليب التي تتبناها، ومن خلالها حققت نجاحات باهرة، نُقدمها هنا كمنوذج ينبغي أن يُعمم ليس داخل وزارة القوى العاملة وفروعها المُختلفة، بل على كل الوزارات في البلاد، نُقدمها للتأكيد بأنّ تحقيق النجاح الذي يُرضي المواطن، ويستوعبه، من المُمكن وليس من المستحيلات، لكن وفق الشروط نفسها التي أنتجت القيادة الجديدة لهذه المديرية الإقليمية، فمنذ سنتين فقط، تولَّت هذه المديرية إدارة جديدة شابة كلها ثقة بقدراتها، ولديها طموحات كبيرة لاختراق الواقع من أجل إحداث التطوير، وما حققته حتى الآن من إنجازات تعد فعلاً خارقة، وهذا اسم على مُسمى، أي ليس مبالغة، ولا نقدمه هنا لمصلحة شخصية ولا لوجود علاقة ذاتية مع الإدارة، فلم يكن، ولن يكن لنا أيّ نشاط اقتصادي، مما قد يُفهم من سوء تقدير لذلك التوصيف، إذن، لماذا هي خارقة؟ وذلك لتحطيمها الأنظمة السابقة التي لم تكن سوى أنظمة أقرب إلى التَّعذيب منه إلى التنظيم، فقد كان المراجعون من مواطنين ووافدين يصطفون في طوابير بشرية طويلة، وينتظرون دورهم يومًا كاملاً، وبعضهم من الفجر، ومع ذلك لن ينهوا معاملاتهم في هذا اليوم، بينما الآن المُعاملات تنهي في دقائق معدودة، كما أنّ الطوابير البشرية قد اختفت تماماً، من هنا يحمل توصيفنا سالف الذكر دلالته، وكذلك هي خارقة للأفكار التي كانت ترى أنَّ روتين العمل الحكومي عصيٌّ على الكسر أمام الفرد، فتم كسر هذا العصيّ، وأصبحت الصلاحيات متاحة فورًا، ودون أن تستنزف من المواطن وقته وجهده، وكذلك هي خارقة، لأنَّ معاناة التعذيب السابقة لم تكن مقصورة على المواطن /المراجع وحده بل إن ضررها أصاب الموظف الذي وجد نفسه أمام لوائح إدارية تعتمد على التراتبية المُعيقة.

ولماذا نعتبرها خارقة؟ التساؤل لا يزال قائمًا، وبقوة، لأنّها اخترقت النظام الجامد لتمركز تقديم الخدمات داخل المديرية فقط، عبر فتح منافذ في المراكز التجارية في مدينة صلالة ومنطقة السعادة وفي المنطقة الحرة بالمزيونة في توزيع عقلاني لخدمة الثكافة السكانية وتواجدها والولايات القريبة منها، والمنفذ هو عبارة عن مُديرية مُصغرة بقاعة مفتوحة من كل الجهات، يقوم بتقديم كل الخدمات من الصباح وحتى العاشرة ليلاً، وفي كل منفذ ثمانية موظفين، لديهم الصلاحيات لإنهاء المعاملات فوراً، وقد أجرينا استطلاعات لمدة أسبوع كامل على منفذ المركز التجاري في /جاردنز/ وكانت النتيجة الرضا التام من قبل كل المراجعين عن التحولات الجديدة لهذه المديرية، وكيف لا يكون هذا الرضا، والخدمة تُقدم في مناخات نفسية راقية، وفي أجواء جاذبة بعيدة كل البعد عن البيروقراطية، وأمكنتها المعتادة، فالمعاملة التي قد تستغرق عشر دقائق بعد أن تمت زيادة سرعة النظام الإلكتروني للمديرية من خلال تزويد الأجهزة بسيرفر حديث وعملي، وبإمكان المراجع أن يقضي تلك الدقائق في أحد المقاهي العالمية في هذه المراكز، أو يقضي حاجات أسرته الشرائية المُتعددة من المحلات التجارية أو الغذائية في المركز، ومن ثم يستلم معاملة بابتسامة من الموظف يقابلها دائمًا شكر من المراجع، وهي كذلك خارقة، للمفارقة الغريبة العجيبة، وهي أن هؤلاء الموظفين هم أنفسهم الذين عاصروا الحقبتين، حقبة عدم الرضا الماضية، وحقبة الرضا الراهنة، وهنا يكمن ملمح من ملامح إبداعات هذه الإدارة التي رأت أولاً ضرورة رفع المعنويات عبر أسلحة المكافآت والتكريم للمجيدين بشكل دوري، وبصورة علنية أو من خلال التكريم المفاجئ للموظف على مكتبه، كما شمل التكريم حتى أصحاب الأعمال البسيطة كالنظافة والصيانة، وهذه خطوة أساسية ومُهمة، فالتحفيز النفسي ورفع معنويات العنصر البشري الذي يرجى منه صناعة النجاح تسبق كل خطوات التطوير اللاحقة، بل لا يُمكن الحديث عن النجاح ما لم يكن العنصر البشري مؤهلاً لذلك، وهذا ما اشتغلت عليه الإدارة الجديدة، مما سهل لها فتح كل الطرق والسبل لتطبيق أفكارها، كما أنّ هناك عاملاً آخر، قد ساعد العنصر البشري على تحقيق التطوير بصورة تلقائية وديناميكية، وهو اكتشاف العُنصر البشري ماهية المستجد على الإدارة الجديدة، فهى تجمع بين قدرتها على التنظير لتطوير العمل وبين قيادتها الميدانية لتحقيق النجاح مع الموظفين، فهي لم تكتفِ فقط بتبني سياسة الباب المفتوح بعد إلغاء نظام المُنسقين للمدير العام والمديرين، وتحويلهم إلى بقية الدوائر في إعادة هيكلية للمديرية، نجم عنها كذلك منح الشباب مسؤوليات جديدة ودمجهم في منظومة التحديث والتطوير الجديدة، بل حولت أبواب الإدارة العليا والمتوسطة داخل المُديرية (المدير العام والمدير العام المساعد والمديرين) إلى زجاجية، وهذا أيضًا اختراق آخر يُحطم سياسة الأبواب المغلقة، وفلسفتها واضحة تمامًا، وهي كسب الرضا الاجتماعي، فالمواطن أثناء زيارته للمديرية سيحكم بنفسه من خلال الأبواب الزجاجية المفتوحة ما إذا كان المسؤول (المدير العام أو المدير العام المساعد أو المديرين أو حتى رؤساء الأقسام) مشغولاً أم لا؟ وفلسفتها تكمن كذلك في تأمين الحقوق بصورة متساوية بين المراجعين وبشفافية الزجاج الأبيض، وبمكاشفة الأبواب المفتوحة، وهذه قمة الشفافية والمُكاشفة التي تُعمق رابطة التواصل والثقة بين هذه الجهة والمواطن، وتجعلهما يُقدران وقت وجهد بعضهما البعض .. لن نُحصي كل الاختراقات، لكننا لابد أن نتوقف في الأخير عند تحويل مدخل المديرية إلى جهة مطار صلالة القديم، فهذا نعتبره اختراقاً في حد ذاته، فكلنا نعلم كم روح قد ازهقت أثناء محاولتها العبور من شارع الرباط للمديرية أو لبقية المؤسسات الحكومية الأخرى التي تقع على هذا الشارع، وبذلك تساهم هذه الإدارة في حل جزء كبير من تلك المشكلة، كما أنَّ هذا التحويل لم يكن سهلاً، لكن الإصرار على النجاح، قد مكَّن هذه الإدارة من الحصول على موافقة الجهات الحكومية المُختصة.

تقدم لنا هذه الإدارة الجديدة، ومن موقعها الإقليمي، تجربة طموحة وواعدة، لابد أن تعمم في كل الوزارات التي لا تزال غارقة في البيروقراطيات المعقدة والمعرقلة التي تصيب المواطن بالإحباط واليأس، وتدفع بهم إلى استخدام أساليب التوائية كثيرة، تجربة تحمل في سياقاتها فهماً حقيقياً لما يدعو إليه عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- منذ عدة سنوات، بإعطاء المزيد من التطوير لقنوات الاتصال بين الجهات الحكومية والمواطنين وصولاً إلى كل ما هو مُمكن للتعاطي مع معاملاتهم وقضاء مصالحهم بكل يُسر، وهذا ما يتحقق الآن في هذه المُديرية، فلهم كل الشُّكر والتَّقدير، فقد أعادوا لذواتنا الأمل في كسر حاجز المُستحيلات البيروقراطية، فهل تدرس هذه التجربة، وتعمم يا حكومتنا الرشيدة؟.