بصمة طفل .. شاهد عيان

 

حمود بن علي الطوقي

 

في العام 1975، قرَّر والدي - رحمه الله تَعالى- أن يحزم حقائبه ملبياً دعوة جلالة السُّلطان للعودة إلى أرض الوطن، حينها كنت قد بلغت السابعة من العمر، فيما كانت السلطنة مسكونة بالسُبات العميق، كل شيء فيها كان عاديًّا، وكل الجغرافيات كانت بسيطة، والحياة لم تخرج من كونها تقليدية بامتياز، لم تكن هناك عوامل تحضُّرٍ كما هي الآن، ولم أشهد شيئاً مختلفًا وقتها، وصولنا في ذلك العام، تصادف مع احتفال السلطنة بالعيد الوطني الخامس المجيد، يومها اصطحبنا والدي من أجل المشاركة في الاحتفال، وكان المكان هو إستاد الوطية، في يوم نوفمبري عظيم، ونحن في تلك السن لم يكن لدينا سوى اختزان الفرح في الذاكرة، وانتظار الوقت كي تفوح رائحة ذلك الفرح في يومٍ ما؛ في ذلك اليوم تحديداً، رأيت المقام السَّامي لمولانا حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه - ، رأيته يمتطي حصاناً أبيض، وكانت المرة الأولى التي أراه فيها، وتلك الرؤية، من تلك الزاوية، ظللتُ محتفظاً بها حتى هذه اللحظة، وقطعًا لن تفارقني، فرؤية الرمز الذي على يديه سيتم صنع عُمان جديدة ومختلفة لم تكن تتجاوز فرحاً طفوليا آنذاك، ولكن حينما استعيدها الآن في ذاكرتي، أجد أنَّ القدر رتّب لي هذه الرؤية، كي تصير التفاصيل ذات ملامح توثيقية وتاريخية.

 

مرّ الوقت سريعًا، وحصلت التحوّلات، وشاهدت كيف أن المكان الذي استحوذ عليه السُّبات يقوم من سُباته، ينفض عن كاهله تعب السنين، يُعيد ترتيب أولوياته، يسير في ركب حضاري مُختلف، كل ذلك شاهدته وأنا طالب..

 

القدر ساقني نحو الصحافة منذ نعومة أظافري، وهذا ما جعلني على مُقربة من تفاصيل كثيرة، أعلم - من خلالها - كيف حصلت تلك التحولات، كيف انتظمت السلطنة مكاناً وشعباً في تسجيل حضورها وتمكنها، وتأكيد استحقاقاتها السياسية والعالمية، وتكييف أوضاعها لتكون ذات شخصية مستقلة، وتنوير الشعب بما يتَّسق مع طبيعة المرحلة، من دون نكوص عنها أو قفز عليها، بحيث آمنّا أن لهذا الحلم معنى، وأن السلطنة لا تخطو خطوة من غير حساب مُسبق لها..

 

ربما رسم هذا القُرب من الكيفية التي تمَّ بها إنشاء السلطنة الحديثة، في عهد المقام السامي لجلالة السُّلطان المعظم - حفظه الله - جعلني أرقب المشهد بعين صحافية، بالطريقة التي تزن مقادير الجهد والبذل والعطاء، بالأسلوب الذي يقرأ التحوّلات بطريقة مختلفة عن عموم النَّاس، بالصيغة التي يمكنها أن تقول المعنى الذي صارت إليه السلطنة في ظل ذاكرة شخصية رأت الحال كيف كان وإلى ماذا آل..

 

لقد تحققت أمور كثيرة ولا شك، وحظيت السلطنة بكثير من أشكال الاعترافات الدولية في مجالات مختلفة، وانبرت الأقلام ترصد وتُحلل وتكتب وتوثق وتدوّن وتسترجع، وتسابقت الكثير من الدول تحاول قراءة المستوى الذي تحوّلت فيه السلطنة من خلاء ضخم إلى عُمران جم، مما جعلها نموذجًا للتحوّل النوعي سابق الزمن في ظل ظروف مختلفة في الداخل والخارج، كوننا جزءًا من العالم غير منفصلين عنه، نتأثر بمناخاته السلبية والإيجابية على السواء..

 

بالرصد الدقيق، نجد أنّ جلالته - حفظه الله - قد تحمَّل مسؤولية إرث ضخم كان لا بد من التَّعاطي معه وتسويته، لأنَّ القفز عليه لم يكن مأموناً، وكان الذكاء السياسي في تدبير شؤون الحكم هو ما أوصل السلطنة إلى برّ أمن وأمان وسلام، متآلفة أطيافها وطوائفها بتناغم قلّ نظيره، وهذا كله صبّ في صالح الاستقرار العام للسلطنة..

 

بفضل جلالته - حفظه الله -، وحكمته وصبره وبُعد نظره، باختياره مسيراً مغايرًا لما عليه الكثيرون، تحوّلت السلطنة إلى دولة عصرية، صارت محج الشعوب والأقوام والثقافات، صارت مضرب مثل في العديد من المُكتسبات، صارت مرجعاً لكثير من طالبي الخبرة في بعض المجالات، أي أنَّ السلطنة غدت كياناً مختلفاً تماماً عما كانت عليه في السابق..

 

يمكن القول إنّ السلطنة صارت - بفضل جلالته - رقماً صعبًا في السياسة العالمية، وتعاملت مع العديد من الملفات الدولية الشائكة، وعملت بسياسة السلم لا الحرب في تدخلاتها التفاوضية، وسلكت مسلك رأب الصدع لا شق الصف، ونالت بفضل ذلك احترام القيادات العالمية والشعوب على حدٍ سواء، وهذا واحد من أعظم المكاسب، التي ستظل خالدة في تاريخ السلطنة..

 

كل هذا هو بعض من فيوضات الثالث والعشرين من يوليو المجيد..