في مديح الحدود

 أحمد الرحبي

اقتحام الحُدود وإلغائها في العالم كما يحدث اليوم على شاشة البلازما الكبيرة لغوغل بليكس GOOGLEBLEX في المقر المركزي الرئيسي لشركة غوغل، حيث تنقر مئات الملايين من النقرات على خارطة العالم، فكل ما هو واقعي وحقيقي، غير مشاهد وغير مرئي على هذه الشاشة، في الوقت الذي يُتيح القمر الاصطناعي الجيو محطي - قمر مصاحب للدورة الأرضية يدور حول الأرض في مدارها– عبر هذه الشاشة البلازمية، لنا رؤية الكوكب ككل كاملاً، لكن هذه الرؤية تحدث خارج المقياس البشري، فقد محت هذه الجغرافيا اللاإنسانية تاريخنا، والسبب أنَّ هذه الشاشة تهمل الأفق الداخلي للإنسان ذي القائمتين، حيث يُذيب هذا المنظور في الشاشة، زمن البشر في فضاء الأشياء، فغيوم الرماد، وانبعاثات الملوثات، مثلها مثل رواد الفضاء الذين يسخرون من الدول المتناهية في الصغر-الميكرودول- ومن الأوساط المتناهية في الصغر-الميكروأوساط- حيث تنمو النبتة البشرية.

ثمة فكرة تفتن الغرب يقول ريجيس دوبرية صاحب كتاب (في مديح الحدود) الذي نستعرضه هنا، تقول هذه الفكرة: ليست الإنسانية بخير وستغدو أفضل من دون حدود. ويقدم بشكل ساخر مثالاً على ذلك وضع مدينة برلين: كان ثمة جدار، ولم يعُد من جدار، وفي ذلك، يضيف دوبرية برهاناً على أنّ الشبكة العنكبوتية، وجنات التهرب الضريبي، والهجمات الافتراضية على المواقع، والسحب البركانية، والاحتباس الحراري، هي كلها تسعى للتخلص من تلك الحواجز الحمراء والبيضاء البالية لإرسالها إلى المتحف البيئي.

"من لا حدود له لا مستقبل له"، هذه هي الفكرة الأساسية التي يطرحها الفيلسوف الفرنسي والمُناضل الأممي ريجيس دوبرية في هذا الكتاب المُهم، مثلما يستشهد بوصف بول كلوديل وهو شاعر ومسرحي ودبلوماسي فرنسي، لليابانيين الذين يعرفون أنفسهم بأنَّهم دولة لا حدود لها.. أيُّها اليابانيون قد كنتم سعداء جدًا في حديقتكم الصغيرة المُغلقة. كان ذلك قبل أن يخرجوا بوحشية من الحديقة كي يغزوا آسيا، ثم يُعاقبوا على ذلك بوحشية أيضاً في عام 1945، لكن جنة عدن التي أحيلت إلى رماد عرفوا كيف يُعيدون بناءها بالروح من بعد هيروشيما بأكلاف جديدة، وبما أنّ الخارطة هي انعكاس للذهن قبل أن تكون صورة للأرض.. وفقاً لقول كريستيان جاكوب -أستاذ وباحث فرنسي مُختص بالثقافة الهيلينستية ومدير أبحاث في المركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا ومن أهم مؤلفاته (إمبراطورية الخرائط) و (مقارنة نظرية لعلم الخرائط عبر التاريخ)، كما يقول فإنّ الحدود هي قبل أي شيء، مسألة فكرية وأخلاقية، فهذا شأن الكائنات البشرية، أما الحيوانات الأخرى فتتخذ لنفسها مساحة خاصة، من خلال أثر وسيط إما شمي أو سمعي، أما نحن فعلينا أن نؤسس: نزرع العلامات، نرفع الشعارات، فالثدييات القلقة -مثلنا- تقتطع مسكنها من المحيط الحيوي وهو قسم من العالم يتيسر فيه الوجود والحياة، وركنها الزراعي من الطبيعة عن طريق الرموز، فهي لا تخلف رائحة كبقية الحيوانات من التبول والتغوط، بل ترسم خطًا على الورق أو تلوح بميثاق مناشدة جوبيتير أو المحكمة العليا.

وفي الوقت الذي يشيد الجميع في العالم بالانفتاح وتخفيف الحدود تضاعف صناعة الإغلاق -اللواقط الحرارية والنظم الإلكترونية– رقم أعمالها بعشرة أمثالها، وفي الوقت الذي يترنم فيه عالم الاستعراض والفن بمقولة عالم واحد فقط يزداد عدد الدول الأعضاء في هيئة الأمم المتحدة أربعة أضعاف عمَّا كانه قبل إنشائها، وبينما يطغى رنين مصطلح نزع صيغة الحدود عن الأراضي أو اقتلاع الحدود في المؤتمرات، فإنّ القانون الدولي يضع الحدود للبحار - التي كانت مشاعة سابقاً- ويؤقلمها ضمن ثلاث مناطق مميزة هي المياه الإقليمية، المناطق المحاذية للشواطئ، ومناطق الامتياز الاقتصادي، وفق ذلك فإنّ الاقتصاد يتعولم أما السياسة فتغدو مناطقية، وبوجود الخليوي والـ gbs - برمجية التموضع الجغرافي– والإنترنت أضحت البلدان المتعامدة جيراناً لنا، لكن الجيران الذين يقطنون البلدة نفسها، يستلون سكاكينهم ويقتل بعضهم بعضًا بضراوة.

الحدود التي يراد إزاحتها وإلغاؤها هي بمثابة الجلد الذي يمثل الفاصل المقاوم بين الجسد والعالم الخارجي، وهو بعيد أيضًا عن أن تكون ستارة كتمية كبعد الحدود -الجديرة باسمها– من أن تكون حائطاً أو جدارًا، فالجدار يمنع المرور أما الحدود فتنظمه، والقول عن حدود ما، بأنّها مصفاة، هو أيضًا منحها ما تستحقه: فالحدود هي هنا من أجل الفلترة والتنقية، فالنظام الحيوي هو نظام حراري ديناميكي من التبادلات مع البيئة بأنواعها: الأرضية منها والبحرية والمجتمعية، تسمح المسام بالنسبة للجلد بالتنفس مثلها مثل المرافئ والجزر والجسور والأنهار.

لقد تغيَّر مفهوم الحدود شكلاً ومضمونًا عبر القرون، فنحن لا نستطيع بالطبع إسقاط رسم حدود دولنا الوطنية الحالية على تعقيدات التخوم الغابرة، وهي ليست أحادية المعنى تمامًا إذ يوجد في كل لغة أكثر من لفظ للدلالة عليها: فلفظ limes باللاتينية لا يعني لفظ finis النهاية ولا لفظ border بالإنجليزية الذي يعني فاصلاً بسيطًا بين دولتين، المختلف بدوره عن لفظ الحدود، أي الفاصل المؤقت بين فضاء مُتمدن ومنطقة همجية يجب غزوها، فخطوط الحدود يمكن أن تكون شرائط من الأرض مرنة ممطوطة إلى حد ما، وثمة أكثر من نظام حدودي قيد التطبيق، ففي فرنسا يعود تثبيت الحدود الخطوطية المستمرة، إلى حقبة الانتقال من الدولة الإقطاعية إلى الدولة الإقليمية، فحتى القرن السادس عشر، لم يكن بمقدور أيّ ملك من ملوك فرنسا تصور حدود مملكته في غياب الخرائط.

تصمد الحدود بتحولاتها، وتبقى بتغيراتها هي لا تقهر، لأنّه من الجيد التفكير بها، والسبب هو أنّ كل تنظيم رمزي لفوضى ما، أو لمزيج مشوش، يمر في كل مرة وفي كل مجال عبر لعبة التعارضات... إذ إنّ الرغبة القوية بالبقاء والعيش، تضع الحدود ضمن برنامج يتبعه كل ما يتحرك ويتنفس، من دون حدود سيكون ذلك مؤسفاً جداً لهذه الكرة الكبيرة ذات الألوان المتعددة، والجذلى بتعدد لغاتها، الكرة التي يجب تعلم التيه والضياع فيها كل يوم، يؤكد ريجيس دوبرية. الجدير بالذكر بأنّ كتاب (في مديح الحدود) هو تدوين لمحاضرة ألقاها ريجيس دوبرية في البيت الفرنسي-الياباني في طوكيو في 2010، وقد أثار صدى واسعًا بعد ذلك، وقد تم ترجمته ونشره عن طريق مجلة الدوحة القطرية في 2013

[email protected]