العرانين والذرى

علي العامري

قال الشريف الرضي -رحمه الله- في لحظةٍ من لحظات الزمن العربي الغابر بمجده ونكساته وبطلوعه وبأفول نجمه الساطع، قال هذا البيت وكأنه يستشرف القادم من الأيام العربية:

"أذَا أَنْتَ أَفْنَيْتَ الْعَرَانِينَ وَالذُّرَى...

رَمَتْكَ اللَّيَالِي مِنْ يَدِ الْخَامِلِ الْغَمْرِ

وَهَبْكَ اتقَيْتَ السَّهْمَ مِنْ حَيْثُ يُتَّقَى...

فَمَنْ لِيَدٍ تَرْمِيكَ مِنْ حَيْثُ لاَ تَدْرِي"

فالعرانين والذرى هما عظماء الناس وأشرافهم، كأنه قال إذا أفنيت عظماء الناس رميت من يد الخامل، وأية أمة لا تجيد الاحتفاء بعرانينها هي أمة آيلة للسقوط في مستنقع الأنقراض والفوضى. وهل ما يجري منذ سنوات في طول الوطن العربي وعرضه غير تصيد للعرانين والذرى من أبناء هذه الأمة المجيدة.

أعتقد أنَّ الشطر الأول من البيت كان غائبًا تمامًا عن أذهان مُعظم قادة النهضة العربية المعاصرة في سيرهم العجول نحو التقدم، ولكننا سمعنا أنَّ جمال عبدالناصر كان يشرب الشاي في بيت الشيخ حسن البنا كل يوم بعد العمل، ويتناقشان بمودة وحب واحترام حول مسيرة النهوض والتقدم لهذه الأمة ويتبادلان أطراف الأحاديث ويعرج بهما النقاش إلى آفاق عليا. ولتناقشا معًا كيف يبنيان هرما رابعا في الجيزة يكون منارا للبشرية، ومنارا للشعوب الحرة في العالم الثالث. لو حدث هذا لما سالت أمام أعيننا الدماء في "رابعة العدوية".

ولكنا كذلك سمعنا أنَّ صدام حسين كان يدعو السيد باقر الصدر إلى شرب كأس من القهوة العربية الساخنة بعد رجوعه من تفقد جبهة القتال على الحدود الشرقية ليعيدا نسج المجد العربي معا، ويجيدا الدفاع عن البوابة الشرقية للوطن العربي. ولو حَدَث هذا لما سقطتْ بغداد ولصَمَدتْ كما تصمُد العواصم المحاطة بالثغور اليقظة.

في هذا الزمن الذي خَفُت فيه صوت الأمة الحقيقي ونعقت فيه الكثير من أصوات النشاز الطائفي والمذهبي المقيت وتساقطتْ أقلام كانت محسوبة على التيار القومي العربي وفقدت بوصلتها في هذا الضباب القاتم بعد سقوط بغداد عام 2003 كآخر حصن عربي متين في وجه هذه الريح الصفراء المقيتة. سقطت كل العرانين والذرى العربية في وحل الصدام البائس للوصول إلى السلطة والتحكم بمقدرات الوطن بدل الحوار الهادئ والاتفاق على طريقة مهنية للأنتقال السلمي للسلطة من جيل إلى جيل، كما تفعل الأمم الحية فوق هذه الأرض.

منذ أن وقعت اتفاقية "كامب ديفيد" المشؤومة في العام 1979م متبوعة بالثورة الإيرانية وهذه الأمة تتخبط في سيرك دراماتيكي فقدت خلاله الكثير من طاقتها في صراع بين بعض قواها الحية، ومنذ ذلك العام إلى يومنا هذا انشغلت الأمة بالكثير من الجبهات والمعارك والحروب الجانبية نَزَفت فيها الكثير من الدماء وأهدرت فيها الكثير من الثروات القومية في جهود إبقاء الذات والحفاظ على الحد الأدنى من مقومات الوجود والثبات.

وعند عقد مصر لصلحها المنفرد مع العدو التاريخي في اتفاقية كامب ديفيد، انبرت الجمهوريات العربية الفتية -مثل العراق وليبيا وسوريا والجزائر واليمن- وكوَّنت جبهة الصمود والتصدي العربية في محاولة يائسة لوقف التطبيع والاعتراف والتعايش مع العدو الصهيوني وعدم الموافقة على تغيير مسمى الوطن العربي الجميل إلى "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، كما وقفت ضد اتفاقيات أوسلو وغيرها من المحاولات التي تحاول إيجاد صيغة مقبولة للاحتلال الصهيوني لفلسطين ومحاولة قبولها والرضوخ لها.

لكن يبدو أنَّ جبهة الصمود والتصدي العربية كانت أضعف زندا من القوى المعادية ومستهدفة من قبل كل الفاعلين على مسرح الأحداث فوق هذه الصفيحة الساخنة التي تُعتبر تاريخيا وجغرافيا منشأ هذا العالم البشري بكل حضاراته ونبؤاته وبطولاته ومآسيه وإنجازاته وإخفاقاته. وبعد مرور أكثر من خمسة وثلاثين عاما من الإنشاء الارتجالي لجبهة الصمود والتصدي العربية ضد اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة كانت ردة الفعل من العدو مُزلزِلَة وموجعة؛ وذلك باحتلال العراق وبإسقاط بغداد عام 2003م والتي كانت عاصمة الرشيد والعاصمة التي عقدت فيها أول قمة لجبهة الصمود والتصدي العربية، لن ينسى عربي حر غيور مشهد جنود المانيز وهم يعبرون جسرا في الناصرية متجهين إلى بغداد كما يتجه السهم المسموم إلى خاصرة القلب القصية. إسقاط هذه الجبهة كان هدفا بعيدَ المدى للكثير من القوى الفاعلة وعلى رأسها العدو الصهيوني وغيره من القوى المحلية والإقليمية الأخرى، وها نحن نرى ثلاث جمهوريات عربية أصبحت شبه حطام وهي العراق وليبيا واليمن والجمهورية الرابعة على حافة الهاوية وهي سوريا والجمهورية الخامسة وهي الجزائر في حالة من التيه وفقدان الذاكرة.

والذي يغيظ فعلا هو إصرار أمريكا على تسمية الوطن العربي في كل بياناتها الرسمية باسم "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا"، وكأنها تقول بملء الفم لأكثر من 300 مليون عربي إنها لا تعترف بوجودهم وإرادتهم الحرة النابعة من صميم تاريخ النهضة العربية الحديثة التي أحيت هذا المسمى الجميل، والذي يذهب بما تبقى من العقل هو أخذ الكثير من العرب بهذا المسمى والترويج له على شكل قنوات تلفازية وصحف ومجلات ومراكز تجارية وبنايات وأسماء شركات كبرى ورغم هذا كله يبقى الوطن العربي جميلا ونبيلا ومتجليا في أبهى حلله فى هذا الزمن الرديء، ورغم هالة الحزن والشجن المرسومة حول عينيه الجميلتين.

لم أقرأ شعرا عربيا أكثر صدقا وإيمانا بقوة هذه الأمة وقدرتها على الصمود في وجه الأهوال ولا شعرا أكثر وجعا من شعر قاله مظفر النواب وهو مُختبئ في كوخ طيني فقير في قرية من قرى الأحواز في ستينيات القرن العشرين الماضي وبعد نكسة يونيو الموجعة: "لا الحكومات... لا الراجعون إلى الخلف/ لا الأطلسي ولا الآخرون وان ضحوا فلسفة....".

مثل هذا الشعر الجميل والصادق هو الذي يحرك جذوة الروح النابضة في هذه الأمة المجيدة منذ فجر التاريخ إلى يومنا هذا، وربما هذه الانحناءة هي فقط لتعين المقادير على إكمال مهمتها الهادفة من صلصال الطين العراقي في الرافدين الذي خطت فوقه أول حرف أبجدي أنار للبشرية دربها وكتب الرعاة والفلاحون القدامى أجمل وأروع الأشعار التي تنزع للخلود والمجد. ومن فوق رمال وادي الغمار وبرقة ثهمد ومن طلول سقط اللوى والدخول وحومل كتب العربي الحر أشعارا لا تزال نابضة بالحياة والتجدد إلى يومنا هذا، وكما قضمت أحراش نسيان كل القلاع الصليبة التى بناها فرسان الهيكل الصليبيون على شواطئ الساحل السوري سوف تقضم رمال الجزيرة العربية كل مجنزرات الجنرال رامسفيلد وآثارها المدمرة.

ماذا تبقَّى لنا من عرانين وذرى في هذا الزمن الموحش الذي تحول فيه الوطن الى رغيف خبز جاف يقضي المواطن العربي الجسور جل عمره في الهرولة وراءه إلى أن ينقضي عهد الشباب الجسور .

أخبروني بتلة ناهدة لأريح عليها رأسي المتعب في هذا الوطن العربي المثخن بالجراح من ضفاف الخليج العربي إلى جبال الأطلسي.