أناشيد الرعاة

علي سعيد العامري

في هذا المقال المقتضب سوف أضع المعلقات العشر والمفضليات وديوان الحماسة وكتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني وموشحات الأندلس وشعر المهجر والشعر العربي الحديث جانبا وسوف أبعد الانتجاع قليلا وأذهب بعيدا إلى المجهول القصي البعيد عن ذاكرة الرواة وأنصت بخشوع وعذوبة واستمع إلى أناشيد الرعاة مبللة بحنين شفاف وحزن غابر، وسوف أشد أنتباه السهول والسفوح والوديان لما فيها من عذوبة اللفظ وغدق العبارة وغضارة البيان. وأبدأ بقراءة نشيد الإنشاد القديم ثم أستمع إلى مقاطع موجعة من (الدبرارات) يحدو بها الرعاة قبيل الأصيل حين تتهدم الظلال فوق السفوح الباهرة في جبال القمر حيث ترك الأنبياء بعضا من مزاميرهم في شغاف القلوب العاشقة.

وإذا كان عبد القاهر الجرجاني قد وقف مطولا أمام بيت قاله أحد الرعاة الغابرين في قوله:

ولما قضينا من منى كل حاجة ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا وسالت بأعناق المطي الأباطح

فإني وقفت مطولا أمام أشعار الرعاة المعاصرين في ريف ظفار وهم ينسجون من الأحرف البائدة منذ الأزل أناشيد في غاية الروعة والبلاغة، وتتدفق منها المعاني والصور كما يتدفق الغدير الصغير فوق حصى الصوان في بطون الأودية.

ولكن قبل الولوج في أبيات الدبرارت المؤثرة دعوني أحلق بعيدا بخيالي لاقتطف من الأسفار القديمة وبالذات من سفر نشيد الإنشاد المنسوب إلى سليمان بن داوود عليه السلام في الإصحاح الثاني:

))حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ. إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، ارْجعْ وَأَشْبِهْ يَا حَبِيبِي الظَّبْيَ أَوْ غُفْرَ الأَيَائِلِ عَلَى الْجِبَالِ الْمُشَعَّبَةِ)) وفي نهاية الإصحاح الرابع يتكرر المشهد للظلال المتهدمة في وقت الأصيل:

(هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ يَا حَبِيبَتِي، هَا أَنْتِ جَمِيلَةٌ! عَيْنَاكِ حَمَامَتَانِ مِنْ تَحْتِ نَقَابِكِ. شَعْرُكِ كَقَطِيعِ مِعْزٍ رَابِضٍ عَلَى جَبَلِ جِلْعَادَ..أَسْنَانُكِ كَقَطِيعِ الْجَزَائِزِ الصَّادِرَةِ مِنَ الْغَسْلِ، اللَّوَاتِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مُتْئِمٌ، وَلَيْسَ فِيهِنَّ عَقِيمٌ. شَفَتَاكِ كَسِلْكَةٍ مِنَ الْقِرْمِزِ، وَفَمُكِ حُلْوٌ. خَدُّكِ كَفِلْقَةِ رُمَّانَةٍ تَحْتَ نَقَابِكِ. ثَدْيَاكِ كَخِشْفَتَيْ ظَبْيَةٍ، تَوْأَمَيْنِ يَرْعَيَانِ بَيْنَ السَّوْسَنِ. إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ، أَذْهَبُ إِلَى جَبَلِ الْمُرِّ وَإِلَى تَلِّ اللُّبَانِ. كُلُّكِ جَمِيلٌ يَا حَبِيبَتِي لَيْسَ فِيكِ عَيْبَةٌ)).

ما يلفت الأنتباه أن كلمتي جبل المر وتل اللبان لا توجد في الشام بل توجد منذ الأزل في الساحل الجنوبي الغربي لجزيرة العرب من رأس فرتك إلى جبل سمحان وهي المنطقة التي أجمع المؤرخون على أنها المكان الذي يجلب منه اللبان والمر، وهو ما جعلني أذهب بحدسي المشوب بالخيال الجامح الى الأعتقاد بأن هذا النص ما هو إلا قصيدة رعوية غنائية قديمة كتبت هنا أو على مقربة من امتداد أرض الله المحرمة.

وكذلك ما لفت انتباهي في الاقتباسين أعلاه ليست فقط الروح الشعرية العالية في كلا النصين بل وكذلك كانت عبارة (إِلَى أَنْ يَفِيحَ النَّهَارُ وَتَنْهَزِمَ الظِّلاَلُ) التي تكررت في سفر نشيد الإنشاد، وكأنك أمام مقطع من دبرارت ظفارية ساخنة حروفها مبللة بندى المحيطات وبخار صلصال سمهرم.

ورغم ما بين هذه النصوص من بعد زمني يعد بآلاف السنين ألا أنّ الذي ربط في ذهني بينهما هو حالة ذهنية ولازمة شعرية ما تزال حيّة ونابضة في أرياف ظفار وبالأخص عند رعاة الإبل مرتبطة بفن قديم اسمه دبرارت يردده رعاة الأبل ويتغنى به شعراء هذا الفن الخاص . وما لفت أنتباهي هي شبه لازمة في هذا الفن يبدأ به الشعراء عادة قصائدهم بها حيث يجذب الشاعر أنتباه السامع بعبارة قوية (قف أو قفي وأنظري ألى تلك الظلال المتهدمة من جانب السفح قيبل غروب الشمس ....)

وعند الحديث عن دبرارت في ريف ظفار لابد من ذكر محاد كشوب (الفهد ) وعمرو شيدر العمري باعتبارهم أقطاب هذا الفن وشماريخه العالية ولكنني في هذه العجالة لا يتسنى لي سبر أغوار إبداعهما لعدم ألمامي الجدير بهاماتهم العالية وأترك هذا للمتخصصين.

وإذا ما حاولت تعريف ما هي دبرارت فهي تعبير صادق عن مشاعر حب وصدق حين تبدأ عادة بذكر الأبناء الصغار والدعوة لهم بالصلاح وطول العمر، فهي تعبير أبوي صادق في مواجهة هجير الحياة عادة، والتقليل من الوحشة والتعبير عن الحنين العفوي لكل ما هو جميل في هذه الحياة كما تعرج إلى وصف الطبيعة وبالذات قمم الجبال الشاهقة حين تعكس ظلالها العملاقة لتصل إلى مكاسر الموج أو في وصف الغيوم والسحب الماطرة، ومن الممكن بعد ذلك ذكر بعض الحكم أو لفت انتباه أبناء المجتمع إلى موضوع معيّن أو ذكر أحد الرجال المشاهير الذين يشار لهم بالبنان. والذين هم في قمة الأخلاق الحميدة والشهامة العالية.

وأجمل ما يمكن أن أضرب مثل لذلك هي نشيد للشاعر عمرو شودر العمري حين يبدأ بذكر ابنه سعيد ويدعو له بالعافية ثم يلفت انتباه السامع إلى مشاهدة القمم العالية لجبل سمحان ثم يتجه إلى وصف الظلال لتك القمم وهي تنحدر من السفوح الحادة إلى أن تصل قبيل الغروب إلى مكاسر الموج على البحر . ثم يعطينا صورة في غاية الروعة والابداع بقوله أن حر الشمس في النهار يطوي الظلال ثم يفرشها في العصر حيث يعطينا صورة شعرية في غاية الروعة والجمال سوف يعجز عبد القاهر الجرجاني عن وصفها وشرحها كما أطال الوقوف قديما عند بيت الشاعر الذي جعل أعناق المطايا وكأنها تسيل في الأباطح كما يجري الماء في مجاريه بهوادة.

يقول الشاعر المبدع عمرو شودر العمري:

(يعبور بهم كل سعيد وبحوفظ ليش أر غيسوق

عشيش أقول أدهيق آذ مينع أيسوق

اذ توهم أرحمون أزود مديد ذ عمر بانشوق

من ضير دهق ذ أيطين أد حورون بشروق

يهورت أجيفي سيا بكل هر تيم أذ حذوق

أد يمنوع أقيصيفيت هييت سه بأغروق

أفوز يطورف أظيلال بعاق ألعاصار نتوق...)

 سوف أعرج إلى جبال القمر في غرب ظفار ثم انكص راجعا إلى سمحان لأحتفي بشاعرين من الرعاة المعاصرين المفتون أحدهما بشكل الظلال وهي تتسارع على سفوح الجبال لتستقر بها وسط الظلمة في مواطئ الوديان وأكناف الشعاب المطلة على رخيوت، والشاعر الآخر بالقرب من أكتاف سمحان الشمالية المفتون بقوادم الإبل العطاش وهي تعبر مفازة وادي عارة وسط الرمال تشدها رائحة الندى القادم مع رياح الصرب الباردة في السفوح الشمالية لسمحان وهضاب (كوهم).

الشاعر سهيل عيسى جشعول جذبني بوصفه الرائع للظلال وهي تتسابق عند الغروب متساقطة من قمم الجبال الوعرة عابرة السفوح والمنحدرات الحادة ثم تتهاوى مسرعة لتتلاشى مع حلول الظلام في مستقر الأودية. ومسلم بن رامس المهري بصوته الندي وكأنه طرفة بن العبد يشيد روائع الشعر الجميل في وصف الجمال أينما كان مصدره، ولست هنا بصدد ترجمة شيء من أشعارهما إلى العربية لأني لست أهلا لذلك ولا توجد لدي الجرأة الكافية لذلك لأن ترجمة الشعر ليس بالعمل السهل. يل سوف أنقل ما قالوا باللهجة الجبالية والمهرية وليعذرني القارئ الكريم الذي يجهل المعني لكنه سوف يستشفه من وقع الكلمات والألفاظ

يقول سهيل عبسى في إحدى قصائده في وصف الظلال المنسكبة من قمم جبل القمر:

تعبور بسن كل طفول تفول بثبت أغجيت

ذيك أزهيت أقدر هير أقفوت با أبلت

هيس ديك ذا الكليل بعوتا رجد با أديت

عشيش أقول أجفي من تل أشتيك أشجريت

نهل حوف أشعرون ومن أشسع أفتلت

وكل أكولي بآفدار هر أحزوج بخيصيت

وسه بروت مغيدوت بأظلوت أجدريت

يكيز قلب أغريم من تل انيت أشيجيت

ويقول مسلم بن رامس عموش المهري في وصف الإبل العطاش وهي تعبر مفازة وادي عارة في جو شديد الحرارة إلى مواطئ وأماكن التخطيل في الصرب حيث المراعي الخصبة والماء الوفير:

حوم لليلي ولطورق كمطولع ذا مديتن

لخييل بعوتي كوهم وت أطومي أخرفيتن

شيسن شازهه أقلبي احوييل أصربيتن

وت خشور عميت وشورد وخطول أثوعريتن

شيسن غيوج وزونت أمعودن أغيليتن

ليك ذا ضيفون تغربن والثناء لقوحريتن

ومغزا تو لو من ريحق أفزعات لعومشيتن

بر شطاول منودر سيح ورمل مكديتن

في وصف الظلال شكل مستدام كديمومة الليل والنهار التي لاتشيخ ولا تهرم كشمس تطلع من سطح البحر كل يوم لتتوارى مع الأصيل في الغروب وبين هذا وذاك ذاكرة باهتة للظلال التي اكتفى بها هؤلاء الرعاة القانعون. وفي وصف أرتال الأبل العربية الأصيلة وهي تعبر مفازات قاحلة إلى حيث المفالي والمراعي الخصبة.

منذ أن حوّر الناقلون القدامى نصوص أشعار الرعاة ليجعلوا منها نصوصًا مقدّسة وحتى هذه اللحظة التي ما يزال شعراء الرعاة يتغنون بدبرارت هناك الآلاف من النصوص المنسية والمطوية في النسيان والذبول.

إنّها دعوة مفتوحة للأدباء والباحثين لكي يتجاوزوا نظرية بروكلمان وطه حسين عن طبيعة الشعر الجاهلي الممتد منذ أكثر من أربعة آلاف سنة إلى الآن ليتحجر ويجمد في حناجر الرعاة القاطنين في سواحل أرض (سأكلهن) موطئ أقدام الآلهة، والممتدة من رأس فرتك إلى القمم الشرقية لجبل سمحان. حيث زرع آخر الشهداء وردة حمراء قانية لا تعرف الذبول في أردية الرعاة والفلاحين.