إسرائيل: التعليم ينتج واحدا بالمائة من المعرفة الإنسانية

د. سيف بن ناصر المعمري

ستظل "إسرائيل" الكلمة الأكثر تداولاً في التاريخ العربي الحديث، لأنّها دخلت الجغرافيا العربية فجأة وعلى حين غرة، واحتلت مكاناً مهمًا في الشرق الأوسط، وحاول العرب- كما يظهر في التاريخ- زحزحتها ورغم ذلك تمكنت من التمدد إلى خارج حدودها، وبمرور الزمن ظهر أنّ العرب غير قادرين على طرد إسرائيل، رغم أنّهم يفوقونها من حيث عدد السكان، ويتفوقون عليها في الموارد الطبيعية، وكذلك في القدرة اللغوية على "التهديد" و"الوعيد"، وفي "تحريك المظاهرات"، و"الاحتجاجات"، ولكن كل ذلك لم يُضعف من قوة هذه الدولة المحتلة لأراضٍ عربية، وفي الوقت الذي تزدهر الجامعات ومراكز الأبحاث في إسرائيل تنتشر الخلايا الإرهابية في كثيرٍ من الأراضي العربية، وفي الوقت الذي لا تزال إسرائيل تُحافظ على تعزيز عملية سياسية ديمقراطية لا يزال ينتشر في البلدان العربية ما أطلق عليه أحدهم مصطلح "تزويروقراطية"، مما يجعلنا أمام تساؤلات من الصعب الإجابة عنها، ولكننا نحاول أن نفهم جزءًا من الواقع الذي ولدها.

لم نفكر يوماً في إسرائيل بطريقة مختلفة حتى نفهم لماذا هي قوية؟، كل ما نعتقده هو أنّها دولة قوية لأنّها مدعومة من الغرب والولايات المُتحدة الأمريكية فقط، فنحن في الوطن العربي لم نفكر يوماً أن أيّ دولة يمكن أن تقوى بعوامل داخلية مثلاً بفضل سياسات تنموية جادة، أو بفضل الاشتغال السليم والمخلص على تحقيق الهدف الوطني، أو من خلال الحفاظ على الثروات الوطنية، كل ذلك لا نُفكر فيه، لأنّ الداخل ومن به لا يعني شيئاً لنا، ولو فكرنا فيه يوماً أو التفتنا إليه ساعة لا نرى فيه إلا مصدر تهديد بدلاً من أن يكون مصدر تعزيز، نرى فيه مصدر إثارة للإشكاليات لكن لا نرى فيه مصدر حل لها، هذه العقلية التي تحكم تفكيرنا، والتي حرصت إسرائيل على إغلاق "عقول مواطنيها" حتى لا يتسرب إليها شيء منها، كانت تُريد أن تستثمر هذه العقول في تعزيز قوتها، ولذا دعمت التعليم والبحث العلمي بكل ما تستطيع، في الوقت الذي غرق التعليم في الدول العربية في بحر من الإشكاليات لا يمكن أن ينقذ منه إلا بمعجزة أو بإرادة، أو بإيمان حقيقي بقيمة العلم في بناء المجتمعات، ولأن زمن المعجزات انتهى، والإيمان بدأ يضعف، والإرادات باتت مشلولة، ما عاد لنا إلا الدعاء ومحاولة التعلم من "العدو"، لا لكي نتغلب عليه ولكن لكي نتغلب على ضعفنا، فعدونا الحقيقي اليوم هو أنفسنا، وإن كنّا نكره أن نكون أقوياء"، فذلك لا يجدي معه التعلم إنما يحتاج إلى مشتغلين في التحليل النفسي، ليحللوا الاضطراب الذي نعيشه، فالأمم والدول لا تنال تقديرها إلا بقدر مساهمتها في صناعة المعرفة، وأفضلية "إسرائيل" علينا كبيرة جداً في ذلك.

إنّ الاهتمام بالتعليم لابد أن يقود إلى تقدم اقتصادي ومن ثم تعزيز للقوة السياسية لأي بلد، وربما لم نجد اسم إسرائيل في مقدمة الدول التي تحتل المراكز المتقدمة في التصنيفات العالمية، لكن لا يعني ذلك أن تعليمها ينتج الفقر والحرمان ويقود إلى البطالة، ولا يعني أن وجودها في محيط عدائي قادها إلى قيادة الشباب إلى مراكز التجنيد، ووضعهم في ثكنات الحدود، ولم تخدعهم بشعارات؛ مثل "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، والمعركة الفعلية خلال العقود السابقة لم تكن ضد إسرائيل إنما كانت ضد الداخل بكل مقومات القوة التي يتمتع بها، لم تقم بكل ذلك لأنّها تؤمن بأهمية مساعدة كل مواطن ليرقى بنفسه ويقدم شيئًا مميزاً لتدعيم قوة إسرائيل، خاصة وأن الفئة العمرية (5-29) تشكل (%41) من سكان إسرائيل، ولذا تشير المؤشرات إلى أنها حصدت حسنات هذا الإيمان ودرجاته، حيث احتلت المركز السابع ضمن تصنيف أكثر الدول تقدماً في التعليم في 2015م، وتمكنت ست من جامعاتها أن تدخل ضمن تصنيف أفضل 500 جامعة في العالم، ويوجد بها 145 عالماً وباحثاً وتقنيا محترفا من كلّ 10000 نسمة وهو أعلى معدل في العالم، مقارنةً مع 85 عالما وباحثا وتقنيا في أمريكا و83 عالما وباحثا وتقنيا في اليابان لنفس العدد من السكان، وهي تنفق النسبة الأعلى في العالم وهي (%5) على البحث العلمي من إجمالي الناتج القومي، وتعتبر الوجهة الأولى للمستثمرين في مجال العلوم والتكنولوجيا الأمريكيين خارج الولايات المتحدة، ويتواجد بها أكبر عدد من الشركات التقنية خارج وادي السيلكون، ونتيجة لكل ذلك تساهم إسرائيل بنسبة (%1) من المعرفة البشرية الإنسانية الحالية، و12 من الحائزين على جائزة نوبل يحملون جنسيتها، 9 منهم في مجالات الفيزياء والكيمياء والأدب.

لا شك أنّ كل هذا التفوق العلمي هو وراء قوة إسرائيل، فحتى لو دعمت من القوى الغربية ما كانت لتصمد لو لم تستند على قاعدة علمية تشجع الابتكار والاختراع، والبحث في كل ما من شأنه أن يفتح لها آفاق التقدم، وحين نبحث عن المنهج الذي يقف وراء كل ذلك نجده يركز على الجوانب العملية والمهارية والحياتية مثل رعاية الحيوان، ومستحضرات التجميل والجمال، والموسيقى والفن والرياضة والثقافة، وكذلك على تدريس اللغات مثل العربية والإنجليزية والعبرية، وعلى المواد العلمية مثل الرياضيات والعلوم، وعلى المواد التاريخية والمدنية مثل التاريخ والكتاب المقدس والجغرافيا والتربية المدنية، وقدم إسحاق ليفي وزير التربية في حكومة نتنياهو برنامجاً يعرف "تعزيز الحافز والجاهزية للخدمة في الجيش الإسرائيلي" من أجل ربط الطلبة منذ فترة مبكرة من أعمارهم بالجانب الوطني المتعلق بالدفاع عن إسرائيل، وبصفة عامة فإنّ المنهج يتضمن الجانب الآيديولوجي الديني القائم على دراسة التوراة المحرفة والتلمود المقدس، ونشر الكراهية والمغالطات خاصة عن العرب إلا أنّ ذلك لم يكن ليغلب على تعليم الطلبة المعرفة الحديثة التي تفتح لهم آفاق الابتكار والاختراع.

رغم التحديات التي تواجه النظام التربوي الإسرائيلي والمرتبطة بتعددية المدارس اليهودية والعربية والدينية، وأيضًا تلك التحديات المرتبطة بالمعلم وإعداده، إلا أن النظام يشهد سعياً حثيثا للتطوير حتى يواجه تحول دولة إسرائيل إلى مكان جذب للشركات التكنولوجية عبر العالم، ولذا هناك اهتمام بالقاعدة أي بالأطفال من خلال توفير فرص لهم للالتحاق برياض الأطفال منذ الأعمال الأولى لهم، وحاليا تبلغ نسبة الالتحاق (%50) ممن هم في سن الثالثة، و(75%) ممن هم في سن الرابعة، والملفت أيضاً الاهتمام بالخدمة العسكرية التي يلتحق بها كلا الجنسين من اليهود والدروز ممن هم في سن (18) سنة، ويعفى منها المسلمون والمسيحيون، ومدتها ثلاث سنوات للذكور وسنتان للإناث، ولذا يتأخر سن الالتحاق بمؤسسات التعليم العالي في إسرائيل عن بقية دول العالم، ويعطي ذلك مؤشراً على زرع الجدية التي يجب أن يكون عليها الشباب من أجل خدمة وطنهم، والملفت للنظر أنّه برغم العلاقة القوية بين إسرائيل والولايات المتحدة في مختلف المجالات إلا أنّ إسرائيل طورت مناهجها المدرسية وأنظمتها الأكاديمية بشكل مختلف عما يجري في الولايات المتحدة، ولا يوجد توجه كبير لموضوع الاعتماد الأكاديمي كما هو الحال في دول الخليج على سبيل المثال، ولم تتحول إلى سوق واسعة للتعليم العالي من خلال فتح فروع للجامعات الغربية، إنما تعمل على بناء مؤسساتها على تربة محلية ووفق احتياجات وطنية، وربما يكون هذا أحد مصادر التفوق في نسبة المساهمة في إنتاج المعرفة الإنسانية، لأنّ السعي وراء الاعتمادات والجودة بأي ثمن وبدون إحداث تغييرات بنيوية في كثير من الجوانب التي تحكم مؤسسات التعليم المختلفة لا يقود إلى تغييرات ذات أهمية.

إذا ظلت الفجوة تتسع بين الدول العربية وإسرائيل في الاهتمام بالتعليم والبحث العلمي، سوف يقود ذلك إلى اتساع الفجوة الاقتصادية والتكنولوجية أيضًا، وبالتالي لابد من السعي لمعرفة هذه الدولة التي- وإن كانت عدواً- إلا أنّها تستحق البحث والدراسة، وتستحق أن نتعلم منها كيف يُمكن أن نصبح أقوياء، وكيف يُمكن أن نؤمن بالبحث العلمي ونخصص له موازنات لا تتأثر بأيّ ظرف، لأنّ البحث يعني معرفة مُتجددة، ويعني تنمية مستدامة، ويعني بلداناً مستقرة، ويعني انخفاض البطالة، ويعني وجود إرادة للحياة، واتجاه لصناعة المستقبل.

تعليق عبر الفيس بوك