الفلسفة الإنسانية

 د. صالح بن ناصر القاسمي

كثيرًا ما سمعنا عن مصطلح الفلسفة، وقد ارتبط هذا المصطلح بالحضارة اليونانية التي تُعدّ الفلسفة مفخرة فكرية شغلت العالم قرونًا عديدة.

وظهر العديد من الفلاسفة الذين شغلوا الدنيا بأسرها بما طرحوه من أفكار ونظريات وتعريفات أصبحت محل اشتغال ونقاشات أثّرت الساحة الفكرية العالمية.

حيث أصبح الفضاء الكوني هو أساس الاشتغال الفلسفي اليوناني، ليتجاوز بعد ذلك الفضاء الكوني ويهتم بالإنسان كونه إنسانًا، فبعد أن تجاوز التعريف التقليدي للفلسفة، الذي كان محددًا بمعرفة الكون وقراءة الطبيعة، وصل إلى الإنسان ومعرفة أنماط تفكيره وأسلوب حياته.

ولعل هذا التحول من دراسة الوجود الخارجي إلى تأمل الإنسان الداخلي، هو ما مهّد لظهور ما يُعرف لاحقًا بفلسفة القيم والأخلاق، حيث لم يعد السؤال عن "ما الكون؟" فقط، بل "ما الخير؟"، و"كيف ينبغي أن أعيش؟". وهذه الأسئلة هي جوهر الفلسفة الإنسانية التي تقيس القيمة لا بالحسابات المجردة، بل بتأثيرها على إنسانية الإنسان وكرامته وسكينته.

ونحن لا نريد أن نتعمق في الحديث عن الفلسفة بالمعنى الذي تناوله الفلاسفة ومعاركهم الفكرية ونظرياتهم التي شغلت العالم، بل أردنا أن نتناول الحديث بشكل مبسط عن الفلسفة الإنسانية التي وُلدت بمعية الإنسان، ثم تدرجت معه لترافقه إلى آخر رحلة في عمره الجسدي، بمعنى فلسفة أسلوب الحياة، وكيف لهذا الإنسان أن يختار من بين تلك الفلسفات ما يجعله يشعر بالسعادة والطمأنينة، وللطمأنينة التي شددنا عليها.

إن بداية الخيط الذي يستطيع القارئ الابتلاء به لنبدأ معه وقلتنا المعرفية، هو الحديث النبوي الشريف: (كل مولود يولد على الفطرة)، والفطرة هنا يُقصد بها الحق والاستقامة ونقاء السريرة، التي تمكّنه من معرفة الله والاقتراب منه إلهًا واحدًا لا شريك له.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأصل الفطري بقوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ (الروم: 30)، وهذه الفطرة هي أساس الفلسفة الإنسانية التي تنبع من داخل النفس السليمة قبل أن تتأثر بالعوامل الخارجية.

لكن الفطرة، وإن كانت أصلًا نقيًّا، تحتاج إلى رعاية وتوجيه، فبعض البيئات تُنمّي في الإنسان القيم التي تعزز هذا النقاء، وبعضها الآخر يُشوش عليه بمفاهيم مغلوطة أو ضغوط نفسية واجتماعية تُبعده عن ذاته الأصيلة. ولهذا كانت التربية، والمحيط، والتجربة، أعمدة أساسية في تشكُّل الفلسفة الإنسانية لدى الأفراد.

وإذا كان كل إنسان يولد مزودًا بالاستعداد الفطري لقبول الحق واختيار الأسلوب الصحيح لمسار حياته، فمن الطبيعي أن مسار الحياة يحتاج إلى نظام متكامل يحفظ لهذا الإنسان السير في مسار واضح رصين، يكفل له سلامة الجسد والروح والعقل.
وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا التوازن في قوله: (إن لبدنك عليك حقًّا، وإن لعينك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا...)، في دعوة واضحة لتنظيم نمط الحياة بما يضمن السلامة الجسدية والنفسية والروحية، وهي جوهر الفلسفة الإنسانية.

ومع امتلاك الإنسان لآلة العقل والاستعداد الفطري، إلا أنه معرض إلى خلل قد يصيب ذلك النظام، بسبب عوامل خارجية تجعله ينحرف عن مساره الأصلي.
ويكفي أن نستحضر قصة قابيل وهابيل، حيث كان الانحراف في الفكر والسلوك أول مظهر بشري لخروج الإنسان عن فطرته، فقتل قابيل أخاه بدافع الحسد والرغبة في السيطرة، مع أنهما ابنا نبي، مما يدل على أن البيئة والاختيار الفردي يؤثران على المسار الفلسفي في حياة الإنسان.

وهنا تبرز أهمية الوعي الذاتي، فليس كافيًا أن نولد بفطرة سليمة أو نعقل الأشياء، بل علينا أن نُدرّب أنفسنا على التأمل والنقد والتصحيح المستمر. وهذا هو ما يجعل الفلسفة الإنسانية حيّة، غير جامدة، تنمو مع التجربة، وتُهذّب بالألم، وتسمو بالتفكر، كما قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾.

والإنسان يجد نفسه في هذه الحياة أمام خيارات عديدة، حيث يبدأ كل شخص بتقييم هذه الخيارات ليختار ما يراه مناسبًا، ويجعله منهجًا لحياته.

هذا الاختيار ينتج عنه منهج فلسفي يلتزم به الإنسان ويطبقه، بل وينصّب نفسه مدافعًا شرسًا عنه، ومن هنا يبدأ الآخرون بوصف ذلك المنهج بقولهم: إن فلانًا له فلسفة مختلفة.

نعم، إن اختيار أسلوب الحياة الذي نعيشه ما هو إلا فلسفة، لها ما يبررها في عقولنا، وهي تلك النظرة التي ننظر بها إلى الأشياء والمواقف والأفكار، وتُميزنا عن غيرنا.
وفي هذا الإطار، نجد أن الفلسفة الإنسانية لا تعني التنظير فقط، بل تبدأ من تفاصيل الحياة اليومية: كيف تتعامل مع من يخالفك؟ كيف تتخذ قراراتك؟ كيف تنظر إلى النجاح والفشل؟ هذه كلها تمظهرات حقيقية لفلسفتك، وإن لم تكتبها في كتاب.

ومع هذا، هناك مشتركات فلسفية تجمع ذلك الإنسان مع محيطه ومجتمعه الذي يعيش فيه.

فعلى مستوى الديانة، يشترك مع الآخرين في العقيدة التي يؤمن بها، والتكاليف التي عليه أن يلتزم بها، حتى ينعم بتناسق روحاني وطبيعي وهو يعيش في ذلك الوسط.
وقد قال الله تعالى في هذا السياق: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ (الأنبياء: 92)، فالدين لا ينظم العلاقة بين الإنسان وربه فقط، بل يبني مجتمعات تقوم على وحدة القيم والمصير.

وبجانب المشترك الديني، هناك مشتركات فلسفية من ناحية القيم والمبادئ والأخلاق، يتشارك بها الإنسان مع محيطه الذي يعيش فيه، وهي بمثابة دستور اجتماعي يحفظ له كرامته، بل يشعره بالاستقرار.

وقد رأينا ذلك في قصة الصلح بين الأوس والخزرج في المدينة المنورة، حين بُني المجتمع الإسلامي على أسس إنسانية راقية من الإخاء والتكافل والتسامح، وهي فلسفات حياة قبل أن تكون تشريعات.

وإذا تأملنا المجتمعات الناجحة اليوم، فإننا نلحظ أنها لا تنهض فقط بالبنية التحتية، بل بفلسفة العيش المشترك، والعدالة، واحترام الإنسان. فحين تتبنّى المجتمعات مبادئ إنسانية عليا كقيم دستورية، فإنها تضع الأساس لعصر من النضج والتوازن الحضاري.

وبجانب اشتراكه الفلسفي في محيطه القريب، هناك مجتمع عالمي يُفترض أن يكون مثاليًا، يجتمع فيه العالم على مبادئ وقيم وأخلاق إنسانية عالمية، يسميه البعض: المشتركات الإنسانية، وبواسطتها يعيش العالم في سلام، ويعمل فيه الجميع تحت قاعدة التدافع التي ينتج عنها رُقي حضاري وتطور المجتمعات.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ﴾ (البقرة: 251)، فالاختلاف الفلسفي والتدافع الأخلاقي حين يكون مبنيًا على القيم، لا يُنتج حربًا، بل يُثمر حضارة.

هذه الفلسفات هي التي يُفترض أن تسود أفكار الإنسان العالمي، لكن المفروض ليس دائمًا هو الواقع، فالخلل الذي يَعرض في التفكير هو الذي يُفسد النظام، ويجعل الإنسانية تعيش حالة من التوترات والصراعات.

وفي زمن تتكاثر فيه الأفكار وتتنافس فيه الفلسفات، لم يعد كافيًا أن نمضي في حياتنا بنسخ مكررة من معتقدات لم نختبرها، أو مواقف لم نُمحّصها، بل صار من الواجب أن نُراجع أنفسنا بصدق: ما الذي نؤمن به حقًّا؟ وما الذي نُمارسه فقط لأنه مألوف؟ هذه المراجعة ليست ضعفًا، بل وعي ناضج يُمهّد لفلسفة إنسانية أصيلة، تُبنى على التفكر لا على التلقين، وعلى الرحمة لا على التعصب.

إذاً، ونحن نتناول الحديث عن الفلسفة، نفرق بين الفلسفة بمعناها الفعلي كما تناولها الفلاسفة اليونانيون ومن جاء بعدهم، بما فيهم الفلاسفة العرب والمسلمون، وبين الفلسفة الإنسانية التي تعني أسلوب الحياة، ونظرة الإنسان إلى الأشياء، وتلك المشتركات القيمية والمبادئ الأخلاقية التي يتشارك بها مع الحضارات الإنسانية المختلفة، والتي نستطيع أن نُطلق عليها: الفلسفة الإنسانية العالمية، والتي هي السبيل الوحيد للتعايش السلمي، إذا ما استطعنا أن نجعلها شعارًا عالميًا يلتزم به الجميع.

 

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة