حقيبة ورق
حمود الطوقي
وشمس اليوم الخامس من هذا الشهر الفضيل؛ ترسل أشعتها إيذانًا بميلاد يوم مبارك جديد، فُجعت مدينة نزوى بفقد أحد أبنائها الأتقياء الأنقياء.. استيقظت بيضة الإسلام وقد كسا الحزن حاراتها وأزقتها ومساجدها.. أعلنت نزوى صبيحة هذا اليوم الحزين الحداد مودعة أحد أعلامها وأبنائها المخلصين؛ لتطوي صفحة جيل لن يتكرر.. إنّه جيل المُخضرمين من أهل العلم والصلاح والإصلاح ممن أبقوا على سيرة العمانيين الأقدمين فلم يبدلوا تبديلا، بل ظلوا متمسكين بخلُقهم وأخلاقهم وهديهم وهندامهم.. ذلكم هو الجيل الذهبي الذي لن يتكرر مهما تبدلت الأزمان (مضوا وآثارهم نور، وذكرهم رُحمى، ومضجعهم روح وريحان) كما وصفهم أبو مسلم البهلاني.
لعمري إنّ رحيل الوالد الشيخ حمد بن علي بن سالم الكندي النزواني حدث مؤلم، واستثنائي، فهو رجل أحب وعشق المحراب فأحبّه الله وأكرمه بحسن الخاتمة كما كان يدعو عقب كل فريضة ونافلة، واستجاب المولى العلي القدير وأذِن جلت قدرته أن تقبض روحه الطاهرة إلى بارئها وهو في المحراب قائم يصلي وملبٍ لنداء ربه، ورافع أكفه إلى الله المتعال بأن يتقبل منه الصلاة والصيام والقيام.
رحل عنّا وأصبح في جوار ربه فقد كان ممن أحبوا المحراب والمصحف، فتزينت أخلاقه بنبل الصالحين من بني جيله الذين زينهم وقار الشيب وأعلى قدرهم سمت الملوك وهدي الأنبياء.
كان آخر عهدي به قبيل قدوم شهر رمضان فقد جمعنا الوالد مسعود بن علي الكندي في منزله وكأنّ لسان الحال يعلن بأنّ اجتماعه مع أبنائه وعائلته هو وداع وأن هذه آخر الجلسات بمعيته، ودَعته وكعهده دوما رحمه الله في كل مرة أراه يذكرني بزيارته ولقاء الإخوة والأرحام في مجلسه العامر بنزوى.. هذا المجلس الذي يظل مفتوحًا طوال العام ويقصده القاصي والداني، وأنا شخصيًا أحرص على تلبية دعوته خاصة أنني ألزمت نفسي بزيارته ثاني أيام العيد من كل عام. فقد لمّح لي بألا أقطع الزيارة وأن أداوم على مواصلة الأرحام.
في كل مرة أزوره فيها تدفعني رغبة في أن أبحر في ذاكرته لأستسقي تاريخه وذكرياته التي اختزنها حول مقامه في نزوى، ومجالسته الأوائل وسفره في شرق إفريقيا الذي كان مقصد وقبلة العمانيين ليكون لهم مقاماً تركوا فيه مآثر جليلة؛ وبذا يكون الشيخ الراحل حمد بن علي بن سالم الكندي رحمه الله شخصيّة مخضرمة، خاضت تجربة طويلة بين تقلبات أحوال الحياة وشؤونها وشجونها بين عمان والشرق الإفريقي.
ورغم مكانته في مجتمعه وعلو قدره عند الناس عامّتهم وخاصتهم، إلا أنّ أبانا الشيخ الكندي عليه الرحمة اختار أن يعيش حياة النسّاك والعباد، فقد اختار المحراب والمصحف، بعيدًا عن الأضواء والضوضاء وملذّات الحياة حلوها ومرّها.. اختار الهدى النبوي في التعامل مع كافة البشر صغيرهم وكبيرهم، حاضرهم وباديهم، ولكم خجلتُ من نفسي حين صافحني بكلتا يديه وكأنني في مقامه.. ليس أنا فحسب بل كان يصافح الصغير والكبير ولا يفرق بين هذا وذاك، فالنّاس عنده سواسية.. كانت شخصيته الهادئة والواثقة تعكس مكانته بين الناس.
نعم إنّ القلب ليحزن وإنّ العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا شيخنا الجليل حمد بن علي بن سالم الكندي لمحزونون ولا نملك إلا أن نقول "إنا لله وإنا إليه راجعون".