كوريا الشمالية: كاد المعلم أن يكون رسولا

د. سَيْف المعمري

رُبَّما يعتقد البعض أنَّ هناك خطأً مطبعيًّا في العنوان؛ لأن التعليم يرتبط في أذهاننا "بكوريا الجنوبية" فقط، أما "كوريا الشمالية" فاسمها ارتبط بكثير من الأفكار القديمة المخيفة التي سوَّقها لنا الإعلام الغربي، وأصبحنا نرددها دون تمحيص؛ من أهمها: "الشيوعية"، و"محور الشر"، و"الحرب الباردة"، و"انتهاك حقوق الإنسان". وأعترف بأنَّني كُنت واحداً من أولئك الذين كونوا بعض المعتقدات "المتوحشة" عن التعليم في هذه الدولة؛ حيث كنت أتخيلها في تعاطيها مع أطفالها مثل دولة المدينة الأسبارطية القديمة التي كانت تأخذ الأطفال منذ فترة مبكرة من أعمارهم وتتركهم في العراء مع الوحوش، بحيث لا يبقى منهم إلا أولئك الذين يتحلون بالشجاعة. أما البقية، فعليهم الموت من أجل إراحة دولتهم من هم إعالتهم وهم ضعفاء، كنت أتخيل الكوريين الشماليين يربطون أطفالهم على رؤوس الصواريخ، ويزرعونهم على الحدود مربوطين بالقنابل، ويجعلونهم يعملون ليلَ نهار في المصانع والحقول، وأنه لا حقَّ لهم في التعليم لأن "الدكتاتوريين" ينظرون إليهم على أنهم رأس المصائب، لأن بالتعليم يتحرر الإنسان، ويفهم، ومن ثم يثور على من يقمعونه، ويحرمونه من خيارات أرضه، و"يضللونه" في كل شيء، وبالتالي لابد أن تقمع مثل هذه النزعات في مهدها بالحرمان من التعليم، كنت هكذا أتخيل تعامل كوريا الشمالية مع سكانها؛ فالشمال ليس كما الجنوب الذي لا نسمع عنها إلا التفوق في التعليم، والصناعة، والديمقراطية، والتعقل، سيما في تعاملها مع جارتها الشمالية.

وما زاد الفضول بداخلي في الحديث عن التعليم في كوريا الشمالية مجموعة من النقاط؛ أولاً: هل التعليم هو السر وراء صمود كوريا الشمالية كل هذه العقود ليس أمام العقوبات الاقتصادية فقط، ولكن أمام الآلة الإعلامية الغربية التي تأبى أن تقول كلمة إنصاف واحدة على الأقل في حق هذه الدولة؟ وثانياً: كنت أحاول أن أفهم هل يمكن أن تلتقي الدكتاتورية والتعليم؟! هل يمكن أن يحظى المعلم بمكانة مرموقة في بلد يوصف بأنه "قمعي"، وأول من يجب أن يقمع هو المعلم الذي يثبت التاريخ أنه أكبر مهدد للأنظمة الدكتاتورية، وهو المحرك لمعظم الحركات التحررية في التاريخ الإنساني؟! وثالثاً: يشغلني سؤال مهم؛ وهو: هل تعليم كوريا الشمالية مُتخلِّف وسيئ مادمت الدولة تُوصف بأنها ضعيفة اقتصاديا، و"تكنولوجيا"؟! وبالتالي يُفترض أن يكون التعليم نتاجًا لكل هذا الضعف والتخلف. أم أن هناك صورة أخرى مختلفة عن كل هذه الافتراضات، وأن هناك جوانب تعليمية مميزة لدى هذا الدولة يمكن الاستفادة منها، من منطلق إذا أردت أن تعرف واقع تعليمك فقارنه بالدول التي تمرُّ بظروف استثنائية إما نتيجة عقوبات اقتصادية، أو عداء من المحيط والعالم، أو تضليل وتشويه، أو نتيجة بعد عن بيوت الخبرة الغربية التي لم تقد حتى اليوم بلدا خليجيا واحدا لتطوير تعليمه، ومن أراد أن يعتبر فليتأمل في تجربة التعليم في إيران التي تطرقنا لها في مقال الأسبوع الماضي الذي كان عنوانه "إيران..تعليم بدون تصنيفات"، وإلى تجربة تعليم كوريا الشمالية التي نعرضها في هذا المقال.

لقد لفتَ نظري في تعليم كوريا الشمالية أربع نقاط على قدر كبير من الأهمية، وهي النقاط التي جعلت من التعليم سلاح البقاء والمقاومة لهذه الدولة:

- أولا: جعل التعليم الأولوية الأولى في البلد، لا يتقدمه في ذلك أي شيء حتى لو كان التسليح؛ لذا تعتبر هذه الدول من الدول القلائل التي خصَّصت يوما وطنيا للتعليم تحتفل به في الخامس من سبتمبر من كل عام، من أجل إظهار الدعم لهذا القطاع الحيوي في دولة لا تمتع بموارد طبيعية كبقية الدول، ويبلغ عدد سكانها 26 مليون نسمة، وعليها عقوبات اقتصادية من زمن طويل، إلا أن كل ذلك لم يجعلها تمس قطاع التعليم الذي جعلته إلزاميا لمدة 12 عاماً، يبدأ من السنة الثانية في الروضة، بل إنها لم تكتفِ بذلك بل تدعم الطلاب بمنح مالية تبلغ 60% من تكلفة المواد التعليمية في التعليم الابتدائي، و20% للزي المدرسي، و50% من كلفة ملابس رياض الأطفال، فأين نجد هذا في مجتمعات ذات وفرة اقتصادية ولا عقوبات عليها؟!

- ثانياً: رفع مكانة المعلم إلى مرحلة توازي مكانته في جارتها كوريا الجنوبية، وتفوق مكانته في الأنظمة التعليمية الغربية وغيرها؛ فالمعلمون هم الوحيدون الذين يحصلون على ألقاب تقديرية عالية، فالذين لديهم خدمة طويلة يمنحون لقب "بطل العمل"، أما المعلمون المتميزون فيكرمون في يوم التعليم ويمنحون لقب "معلم الشعب" علاوة على ميدالية الدولة، ويتم وضعهم كأعضاء ممثلين في مختلف شؤون الدولة، ويحصل المعلمون على أعلى رواتب بالدولة، والذين قضوا عشرين عاما في الخدمة لديهم نظام تقاعد خاص بهم. أما المعلمات، فيتمتعن علاوة على ذلك بإجازة أمومة تبلغ 150 يوماً: 60 يوما قبل الولادة و90 يوماً بعد الولاة. وتقدَّم مراعاة خاصة للمعلمين في مختلف الخدمات، ويتم إعدادهم في كليات تابعة للدولة تختلف فتراتها الزمنية، علاوة على أخذهم في رحلات دورية لمختلف قطاعات الدولة ومؤسساتها باعتبارهم النخبة المتميزة المؤتمنة على الدولة من خلال عملهم على تنشئة الطلاب وتعليمهم، فأين الدول التي تدلل معلميها كما تفعل هذه الدولة التي توصف بأنها "متوحشة"، و"مارقة عن الإرادة الدولية" لكنها غير مارقة في رؤيتها لمعلميها الذين تعتبرهم رسل التقدم وأدوات المقاومة.

- ثالثاً: إنَّ المنهج الكوري مرتبط باحتياجات البلد ومتطلبات الواقع وليس صحيحا أنه من أجل بناء زرع "مخ شيوعي" داخل عقل كل طالب؛ لأن 8% فقط من محتوى المنهج يخصص للأخلاق الشيوعية في المراحل الدراسية الأولى، وتنخفض النسبة إلى 5.8% في المرحلة المتوسطة، إنَّما بقية المنهج ففيه تركيز على التقنية، والعلوم، والتربية الاجتماعية، واللغات الأجنبية؛ حيث يجب على طلاب المدارس الثانوية دراسة لغتين على الأقل أو ثلاث لغات على الأكثر من اللغات التالية: الإنجليزية، الفرنسية، الروسية، الصينية، اليابانية، الألمانية؛ بهدف عبَّر عنه أحد الطلاب حيث قال: "علينا أن نعرف لغة أعدائنا وأن نعلمهم بلسانهم كيف يعرفوننا"، إنه الشعور القوي بالهوية الذي يزرعه التعليم في هؤلاء الطلاب بهويتهم، وتفوقهم، يجعلهم أقويا في مواجهة الآخر، لا يشعرون بالدونية أو الضعف أو الانكسار، وهذا هو مصدر قوة كوريا الشمالية الحقيقي وليس ترسانتها العسكرية فقط.

- رابعاً: أن هذه الدولة أسست مسارًا من المدارس أطلقت عليه "مدارس الأغراض الخاصة" وهو يعد تطبيقا متقدما لنظرية "الذكاءات المتعددة" التي وضعها العالم التربوي الأمريكي "جادرنر" حتى وإن كانوا فعلوا ذلك دون أن يعرفوا هذه النظرية وصاحبها، هذه المدارس للنخبة من المتميزين من الطلاب، هناك مدارس للموهوبين، وتبدأ الدراسة فيها (من سن 5 إلى 14)، ومدارس الفنون (من سن 6 إلى 18)، ومدارس الرياضة (من سن 6 إلى 18)، ومدارس اللغات الأجنبية (من سن 10 إلى 18 سنة)، ومدارس العلوم (من سن 10 إلى 21 سنة)، وبالتالي فهم يتعرفون على النوابغ من الطلاب ويقدمون لهم رعاية خاصة تزيد من إنجازهم وتفوقهم في تلك المواهب، بدلا من تركهم في الفصول العادية التي ربما لا تساعدهم في صقل تلك المواهب مما يحرم البلد من هذه النخبة التي يتصارع العالم اليوم عليها.

تلك النقاط الأربع ليست هي كل أسرار نظام التعليم في كوريا الشمالية، هناك الكثير مما لا يمسح المقام أن يذكر هنا، هذه الدولة يعاقبها العالم لكنه لا يستطيع أن يشل قدرتها على النجاح، لأن نجاحها هو بمواردها الذاتية؛ لذا نجحت في محاصرة الأمية بنسبة وصلت إلى 99% وهي نسبة لم تصل إليها دول أقل سكانا، وأغنى مواردا، وهذه الدولة تعلمنا "عدة لاءات" يجب علينا أن نعيها وهي: لا تجعلوا التعليم قطاعًا خلف بقية القطاعات، ولا تجعلوه ساحة يعبث فيها من يشاء، ولا تجعلوا المعلم أقل مكانة من بقية الوظائف، ولا تستوردوا خطط التطوير من خارج الحدود، ولا تحرموا الموهوبين والمتميزين من فرص مختلفة، ولا تجعل التعليم سلعة تُباع وتشترى هنا وهناك؛ فالتعليم مصدر كل أمان، ومفتاح كل تطور، وتدهوره هو أكثر قسوة من العقوبات التي تعرضت عليها كوريا الشمالية لعقود.

تعليق عبر الفيس بوك