المعلم العُماني.. من صمته يولد القادة ومن ظله تُبنى الحضارات (2-2)

 

 

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

 

في الجزءِ الأولِ من هذه الملحمة الحضارية، تأمَّلنا معًا في أسرارِ عظمةِ المعلمِ العُمانيِّ وبصيرتِهِ النافذةِ التي تمزجُ بين نظرياتِ التعليمِ الحديثةِ وقيمِ الأصالةِ العُمانيةِ. والآن نواصلُ رحلتنا في الجزء الثاني من هذه الملحمة الحضارية، نستكمل رحلتنا مع المعلم العُماني، ذلك المهندس الحقيقي للنهضة وصانع الأجيال، الذي يحمل في قلبه أمانة المستقبل وفي عقله رؤية التجديد، بغية استكشافِ هذه الشخصيةِ الفريدةِ التي تُشكِّلُ، في صمتٍ وتواضعٍ، مستقبلَ الأمةِ وتصنعُ قادةَ الغدِ، الذي يحملُ في قلبهِ أمانةَ الأجيالِ، وفي عقلهِ رؤيةَ التجديدِ.

يتميز المعلم العُماني ببصيرته النافذة التي تمكنه من النظر إلى الواقع بعين نموذج (SWOT)، فيميز بثاقب فكره بين القوة والفرصة، وبين الضعف والتهديد. ولكن عظمته لا تتوقف عند حدود التشخيص، بل تتجاوزها إلى ذُرى التخطيط الاستراتيجي معتمدًا على نظرية لين في ترشيد الموارد وتجويد الأداء، متبنيًا قاعدته الذهبية: "افعل الكثير بالقليل، ولكن بذكاء وإتقان واقتدار".

يدير المعلم العُماني ذاته كما يُدار المشروع الناجح، ويراجع نفسه بصدق وتجرد مفتوحًا نافذة جوهاري على مصراعيها ليرى صورته الحقيقية في مرآة الآخرين، ويكشف بشجاعة نادرة ما خفي عنه. فالعظمة في مدرسته ليست في أن يعرف، بل في أن يعترف بلا خوف، وأن يُكمل ما ينقصه من نفسه قبل أن يسأله من غيره.

وفي خضم هذا كله، لا ينسى المعلم العُماني أن الإنسان كيان مزدوج من عاطفة وعقل، فكما يخاطب الدماغ بمنهجية العالِم، يلامس أوتار الضمير برقة الشاعر. وكما يُبهر بالمنهج والدليل، يُنصت للحلم والوجدان، ويصغي بأذن رحيمة لهمس الطالب الخافت وصمت المتعلم الحائر وانكسار الخجول المتردد وضجيج المتردد المضطرب، فيحتوي الجميع بقلب ملؤه الرحمة والفهم.

هكذا هو المعلم العُماني، الراعي الذي لا يصرخ في قطيعه، بل يقوده بهمس البصيرة ونور الحكمة، ويرعاه بدفء الحب وسخاء الإحسان، مستلهمًا في ذلك سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين. فهو وريث أولئك العظماء، يحمل شعلتهم ولكن بلسان العصر ولغة التقنية الحديثة، مع الحفاظ على قلادة القيم الخالدة التي لا تبلى.

من ينظر إلى المعلم العُماني في قاعة تدريب، يدرك أنه يشهد جسرًا فريدًا يصل بين زمنين متباعدين: زمن الجذور الراسخة وزمن الأجنحة المحلقة نحو المستقبل. فهو حارس الذاكرة وصانع الغد، ينسج من خيوط الماضي العريق قماشًا للمستقبل المشرق، ويجسر الهوة بين تراث ينبض بالحكمة وعصر يعج بالتحولات المتسارعة.

من بين يدي المعلم العُماني يخرج جيل متوازن، يستطيع أن يقف بقدمين راسختين في أرض الهوية، وينظر بعينين متفتحتين إلى آفاق العالم. جيل يُتقن لغة العصر دون أن يفقد صوته الأصيل، ويمتلك أدوات التقنية المتطورة دون أن يستعبده سحرها الخادع.

يستلهم المعلم العُماني من دراسات الذكاءات المتعددة لجاردنر مدخلًا لاكتشاف المواهب المدفونة في صدور طلابه، فينظر إليهم نظرة شاملة متكاملة، لا يقيمهم من زاوية الذكاء اللغوي أو المنطقي فحسب، بل يستكشف فيهم ذكاء الجسد والإيقاع والطبيعة والتأمل واللون والنغم والاجتماع، فيفتح لهم أبوابًا للنجاح لم تكن الأنظمة التقليدية لتراها.

وحينَ يدخلُ العالمُ عصرَ التعلّمِ الرقميِّ المفتوحِ (MOOCs)، يقف بحكمةِ المتأمّلِ المتبصّرِ، فلا ينجرفُ معَ تيّارِ الانبهارِ العابرِ، ولا يغلقُ بابَ التجديدِ بحجّةِ المحافظةِ. بل يُمسكُ بميزانِ الناقدِ الخبيرِ، فيأخذُ ما ينفعُ ويدعُ ما يضرُّ، ويطوِّعُ التقنيةَ لبناءِ منظومةٍ تعليميّةٍ متفرّدةٍ تحملُ بصمةَ عُمان الثقافيّةَ وروحَها الأصيلةَ.

في حين تنشغل الأنظمة التعليمية المعاصرة بسباق المهارات التقنية، ينظر المعلم العُماني بعين البصيرة إلى ما هو أعمق: إلى بناء ضمير يقظ، وفطرة نقية، وإرادة صلبة لا تنحني أمام إغراءات الزيف والتضليل. فيستحضر في منهجه التربوي نظرية كولبرج للنمو الأخلاقي، فينتقل بطلابه من مرحلة الخوف من العقاب، إلى مرحلة الالتزام بالمعايير الاجتماعية، وصولًا إلى أسمى مراتب النمو الأخلاقي: الالتزام بالمبادئ الإنسانية السامية، والقيم الكونية النبيلة، المتناغمة مع قيم الإسلام العظيمة.

حين يواجه المعلم العُماني التحديات التي تعترض مسيرته، يستحضر نظرية الصمود النفسي التي صاغها نورمان جارميزي ، فلا يراها عقبات محبطة، بل فرصًا للتعلم والنمو. ويدرك أن الصمود ليس مجرد القدرة على تحمل الضغوط، بل هو القدرة على التكيف الإيجابي في مواجهة الشدائد، والنهوض من كبوات الحياة أكثر قوة وحكمة. وبهذا الفهم العميق، يعلم طلابه أن الفشل ليس نهاية الرحلة، بل محطة للتزود بالزاد والخبرة، وأن النجاح الحقيقي ليس في تجنب السقوط، بل في قوة النهوض بعده.

لا يكتفي المعلم العُماني بحدس الشعراء، بل يستنير أيضًا بمنطق العلماء، فيقرأ التجارب العالمية في نظم التعليم الناجحة، ويطالع أبحاث جون هاتي في "التعليم المرئي"، ويحلل حجم تأثير المتغيرات المختلفة على نواتج التعلم، ويطبق نظرية التعلم العميق والتفكير النقدي، فيجعل غرفة الصف مختبرًا للأفكار، لا مستودعًا للمعلومات الجامدة.

بينما تنشغل نظم التعليم المعاصرة بقياس المخرجات الكمية، ينظر المعلم العُماني إلى البعد الإنساني العميق. يدرك أن المتعلم ليس مستقبلًا سلبيًا، بل كائن معقد تتفاعل داخله الرغبات والمخاوف، والطموحات والإحباطات. فيستحضر نظرية الحاجات لماسلو، ونظرية التعلم الاجتماعي لباندورا، ونظرية التدفق لميهالي، فيخلق لطلابه بيئة آمنة نفسيًا، ولا ينسى هرم بلوم لقياس مخرجات التعلم، والتي تمكنهم من الوصول إلى حالة "التدفق" – تلك اللحظات السحرية التي ينغمس فيها المرء في العمل بكل جوارحه، فيتوحد مع ما يفعل.

يتخطى المعلم العُماني حدود الزمان والمكان، فيجمع بين عراقة المدرسة الشرقية وعقلانية المدرسة الغربية، بين ثوابت الروح الخالدة ومتغيرات الحضارة المتجددة. يغوص في أعماق التراث، فيستخرج منه دررًا لا تبلى، وينظر بعين الناقد المتبصر إلى المنجز المعاصر، فيأخذ منه ما يثري ولا يفقر، ويبني ولا يهدم، ويعلي ولا يخفض.

لا يملك المعلم العُماني معجزات الأنبياء، ولكنه يحيي القلوب الميتة بنور المعرفة. ولا يملك سلطة الملوك، ولكنه يشكل عقولًا ستقود الأمم في المستقبل. ولا يملك كنوز قارون، ولكنه يورث الأجيال ثروة لا تفنى: العلم النافع والفكر المستنير.

حين يبلغ الليل مداه، وتستكين الأنفاس، وتهجع العيون، نجد المعلم العُماني منحنيًا على دفتر لطالب، أو مطالعًا كتابًا جديدًا، أو متأملًا في تجربة تعليمية خاضها، أو مبتكرًا وسيلة تعليمية ستبهر طلابه غدًا. فهو دائم اليقظة والتطور، لا يركن إلى ما أنجز، بل يسأل نفسه دائمًا: ماذا بعد؟ وكيف أكون أفضل؟

في صمت المعلم العُماني تتجلى عظمته الحقيقية. فهو لا يبهر العيون بضجيج، ولا يخطف الأبصار ببريق زائف، بل يعمل في صمت وإخلاص، كما يعمل النحل في خلاياه، ينتج العسل الشهي بلا ضوضاء. من هذا الصمت النبيل يولد القادة الحقيقيون، ومن ظله الوارف تبنى الحضارات المجيدة.

إن المعلم العُماني هو جذر الشجرة لا يراه الناظرون، ولكن الثمار الطيبة تشهد على قوته وعطائه. هو الضوء الذي ينير الدروب لغيره، حتى لو احترق في صمت ليرى الآخرون. هو الصخرة الصلبة التي يقف عليها المجتمع في أوقات العواصف والزلازل.

ختامًا، تتجلى الحقيقة ناصعة: أن عظمة الأوطان لا تقاس بثرواتها المادية، ولا بأبراجها الشاهقة، ولا بجيوشها الجرارة، بل بنوعية المعلمين الذين ينحتون في صخر الزمن أجيالًا واعية، وبنوعية التعليم الذي يغرس جذور الهوية ويطلق أجنحة الإبداع.

لقد أدرك المعلم العُماني ابن البحّارَ أحمد بن ماجد، والعالِمَ الخليل بن أحمد الفراهيدي، ابنَ الأفلاجِ والقلاعِ، حفيدَ العظماء والنبلاء، أن سر الحياة، بالعطاء فهي حياة ثانية " وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ " [الشعراء: 84]" وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ  " [ الصافات : 108 - 110 ] . "، فهو يؤمن أن التأثير خلود، وأن بناء الإنسان هو بناء الحضارة. لذلك انطلق في رسالته بيقين المؤمن، وبصيرة العارف، وهمة القائد، وتواضع العظماء.

سلام على المعلم العُماني وهو يغرس شتلة العلم في قلب طفل يافع، ويبث روح الثقة في نفس شاب متردد، ويضيء شعلة الإبداع في عقل فتية طموحة.

سلام عليه بعدد الحروف التي علمها، والمعاني التي كشفها، والبراعم التي سقاها، والمواهب التي اكتشفها، والعثرات التي أقالها، والقلوب التي وصلها.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة