أحنُّ إلى بَيْت جدي...!

زينب الغريبيَّة

مرَّت سنوات عديدة، فرَّقت بيني وبين بيت جدي، سنوات كان ريتم الزمن فيها سريعا، حدثت فيها أمور كثيرة، غيَّرت كل معالم الحياة؛ منها أن استقلَّ والدي بنا في بيت العائلة الصغيرة، وما حدث بعدها من تطورات حياة، ثم خرجت لبيت أسرتي الصغيرة خارج تلك المحافظة ليزيد بُعدي عن بيت جدي، لكنَّ حُبِّي لبيت جدي لم يزل، لا يمكن أن تمحوه كل تلك السنين.

بيت جدي كان كبيرا ضخما، به ثلاثة طوابق، والعشرات العشرات من الغرف، كان يتسع لنا ولأعمامي وعماتي، وأولادهم، كنا نعيش فيه جميعا، كأننا عائلة صغيرة واحدة، فيه (بهوة) مربعة كبيرة في المنتصف مفتوحة على السماء، وتتحلق حولها غرف المنزل حيث تخرج كل الغرف على ممرات متسعة تطل على تلك (البهوة)، فمن أي جانب في أي طابق نطل عليها، وكان هناك دورات مياه عامة في كل طابق يستخدهما كل ساكني ذلك الطابق، وبه في أحد جوانب الطابق الأرضي خارج إطار المنزل حظيرة أغنام بها الكثير من الأغنام، وبالقرب من الحظيرة كانت عماتي قد أنشأن فرنا كبيرا كحفرة في الأرض يحرقن فيها المجامر اللاتي يقمن بصناعتها من الطين، ليضعنها في تلك الحفرة ويطمرنها بالتراب لفترة من الزمن ثم يخرجنها ويُكملن عملية تلميعها وتلوينها، كما كان لهن فرن آخر في مكان ما بالطابق الأرضي يصنعن فيه الكعك الظفاري، كانت رائحته تعم كل أنحاء الطوابق الثلاثة.

جدي كان يجلس في غرفة في الطابق الأرضي قريبة من البوابة الرئيسية لحوش المنزل، يستقبل فيها أناس مختلفين ليحكم بينهم في قضايا قد اختلفوا عليها، وكنا نرقب هؤلاء الناس ولكننا لا نعرف ماذا يصنعنون مع جدي بالداخل، وحين كان جدي يخرج ليصعد إلى غرفته بالطابق الثالث في أعلى البيت كانت تسمّى (القَصْر)، حين يمر كنّا نصطنع تنظيف المكان فقد كان يكافئونا بالنقود قائلا لنا: بوركتم يا أبنائي أنتم تعملون على تنظيف البيت، كنا نأخذ النقود وننتظره حتى يصعد لنترك ما بيدنا فقد كان سبيل التمثيل فقط، رحمك الله ياجدي كم كنت حنونا وجميلا.

وقت القيلولة كان لابد أن ينام جدي لوقت قصير يرتاح فيه، كان يطلب منا نحن بنات أولاده أن نتحلق حوله لنقوم بعمليات المساج وتمشيط شعره القصير جدا ذو الصلعة من المنتصف، رغم أننا كنا صغارا كثيرا ربما لم يكن يشعر براحة أيدينا وهي تدلك، ولكنه كان يغمرنا بالحنان، عندما يقول لنا: اتركنني أنام فقد أديتن عملكن واسترخى جسدي من المساج، وكان يوزع علينا مكعبات السكر (سكر بلوج، أظنه هكذا يسمى)، لم يكن كذلك، بل كان يغمرنا بحنانه الذي يتسع لكل من كان يقطن ذاك المنزل.

أبناء أعمامي الذكور كانو أكبر منا سنا، كانو يربون الأرانب والطيور في أقفاص كبيرة فوق سطح المنزل، كانوا يمنعوننا من الاقتراب من أملاكهم، حتى لا نفسد عليهم شيئا، وكنا نستجيب لهم، فقط نكتفي بأن نرقب الوضع من بعيد، عندما نطل من على جدار السطح نرى الجامع القريب من المنزل يفصلنا عنه شارع ترابي، لا أستطيع أن أنسى منظر الجو الذي يخلد في قلبي عندما يمتزج صوت أذان المغرب مع منظر أضواء الجامع، وأضواء الشارع المعبد القريب منا، مع منظر الرجال والأولاد وهم يتساعرون للصلاة.

كل يوم خميس يجتمع كل أفراد القبيلة صغارا وكبارا في بيت جدي (حيث كانت الإجازة الأسبوعية في ذلك الوقت يوما واحدا هو يوم الجمعة) يبدؤون التوافد بعد صلاة العصر ليكتملوا قبل صلاة المغرب، يوم الخميس نجتمع بالجميع من أقاربنا وأهلنا، كل فئة عمرية متقاربة ومتشابهة في الجنس تلتف في حلقة وفي مكان ما من المنزل متعدد الغرف والممرات والصالات، يعم الضجيج البيت، وتكثر الأحاديث، ويجتمع الجميع على العشاء في أحد الممرات الكبيرة أمام غرفة جدي (القصر) حيث تُقدم الصحون على طول الممر ويلتف الجميع حولها، تسمع صوت النكات والضحكات، كانت ترسم البهجة على قلوبنا نحن الأطفال وسط جميع أهلنا.

وَقْت إخراج المجامر من الفرن، كنا نلتفُّ جميعنا مع عماتي وجداتي (كان جدي متزوجا من نساء عديدات) نساعدهن، ونحمل معهن، وكن حريصات على ألا ينكسر شيئا من المجامر، ثم يضعنهن في غرفة خاصة ليقمن بإخراج كل يوم كمية يقمن بتلميعها (حَسْيِّ المجامر) بأصداف البحر الملساء (المحّار)، كن يعلمننا كيف نقوم بعملية (الحسي) ونتقنها، ويقدمن التعزيز لمن يبرع منا أكثر في إتمام العملية، وبعدها يقمن بالرسم عليها بـ(الرنج) الذي غالبا ما يكون لونه أحمر أو أخضر أو أصفر وأحيانا أزرق. حيث يخططن على المجامر خطوطا ودوائر. وتكون المجامر إما دائرية أو مربعة الشكل وعادة بمقاييس موحدة. كم أشتاق لرائحة طين المجامر، وجلسة (حسيها).

بيت جدي حَوَى مشاهدَ إنسانية كثيرة، كان يضم كلَّ من تطلَّق من عماتي مع أطفالهم، ومن تيتَّم من أبناء عمومتي ليلقى الرعاية الكاملة من إحدى عماتي المطلقات ليصبحوا في مرتبة أولادها، يجمعنا التكافل والمحبة، سافر أبي -رحمه الله- في رحلة علاجية إلى دولة أوروبية، واستمرت رحلة علاجه شهورًا، فلم نشعر بالوحدة ولا بالحاجة، كان عمي يتفقد حالنا ويشتري لنا حاجياتنا الأساسية دون أن نطلبها منه، وعمي الآخر يصطحبنا كل جمعة أنا وإخوتي في جولة بسيارته يشتري لنا أشياء تُسعدنا حتى لو لم نكن بحاجتها، وجدي يمر صباحَ مساء ليطمئن علينا، أين نحن من كل هذا الآن؟!

لن تسعفني سطور هذا المقال لأخط ما كان يحدث في بيت جدي، الذي غرس بدواخلنا المحبة والوفاء، والذي قرب كل القلوب التي تنحدر من فرعه وفروع إخوته وذويه، علمنا ذاك البيت معنى الحياة التي يستطيع الفرد بها أن يحتوي جماعات بقلبه وعنايته، لن تتكرر الحياة الآن، ولن تصنع بيتا كبيت جدي، لا أستطيع أن أرى في كل أرجاء الحياة المحيطة ظاهرة تشبه ما كنت أراه في بيت جدي!

ذهب بيت جدي.. وذهب معه جدي وأبي وكثير من أعمامي وعماتي، لم يبقَ إلا من هو هَرِم الآن منهم، يبعث لنا شعاع حب من ذاك البيت الذي لن يختفي من قلوبنا نحن الذين كنا أطفالا فيه يوما ما.

تعليق عبر الفيس بوك