القطع المتعمد للرحم.. مأساة السقوط في غيابات التفكك الأسري

"أربعيني" يهجر أسرته بحثًا عن "أضواء المدينة".. والأطفال يتيهون بين زوج الأم وزوجة الأب

رصدت التجربة - مدرين المكتومية

هو قطع متعمّد لصلة الرحم، تلك هي المأساة الحقيقية التي تسبب فيها "س.ص"؛ إذ دبّ التفكك الأسري في عائلته، بل لم يعد يدرك أنّه تفكك لأسرته، إنما هي ظروف الحياة، ففي غفلة من أمره شرّد أسرته، ودفع زوجته إلى الزواج بآخر، ليجد الأبناء أنفسهم بين أم تعيش مع زوج ليس بأبيهم، وأب يقضي حياته مع زوجة لم تكن لهم بمثابة الأم.

الأربعيني الذي أنهى أربعة أعوام من عقده الخامس، ينتمي لعائلة تقطن في منطقة بعيدة عن أضواء المدنية التي طالما أبهرته بانفتاحها وتعدد الخلفيات الثقافية للمقيمين فيها، تزوّج في سن صغيرة على نفقة العائلة، دون كد أو تعب في مهر أو منزل، فالزوجة هي ابنة عمه التي قررت العائلة تزويجهما في سن مبكرة، دون أي رفض من كليهما، فهما منفذان لأوامر من يظنون أنّهم أولو الأمر.. عاش الاثنان حياة زوجية ليست بالسعيدة ولا بالحزينة، فكان زواجا تقليديا بكل ما تعنيه الكلمة، ولسوء حظ كليهما، أنّ الزوج يعمل في المدينة خارج هذه المنطقة، وكانت المدينة أحب إلى قلبه من سواها، حتى أنه كان يختلق الأعذار كي لا يعود في الإجازة الأسبوعية إلى كنف منزله وأسرته الصغيرة.

الهروب نحو المجهول!

واصل الزوج عمله بعيدًا عن أسرته لسنوات، دون أن يفكر للحظة واحدة في جدوى حياته بعيدًا عن اسرته وأطفاله الذين يمثلون جزءا منه، بل إنّه حتى لم يدر بخلده أن يصطحبهم معه إلى المدينة، في موقف يعكس أقوى صور الأنانية، وحب النفس، فالرجل لم يكن يريد لنفسه مزيدًا من العناء إذا ما قدمت أسرته الصغيرة للعيش معه في المدينة، وبدا أنّ هذا الأمر يسير في خط مواز مستقيم مع رغبة الزوجة في عدم الخروج من قريتها، فقط لم تكن تريد سوى أن تعيش في كنف أهلها تحيا بدفئهم وتقضي يومها معهم.

كان الزوج يؤمن أنّ عليه أن يوفر احتياجات أسرته المادية دون التفكير في احتياجاتهم المعنوية، ولظروف نشأته التي قال إنّها "قاسية قليلا"، لم يكن يمتلك مساحة للحنين والاشتياق إلى أهله، أو حتى تلك المشاعر الهادئة الدافئة تجاه أي من أفراد عائلته.. فمنذ الصغر كانوا ينعتونه بـ"المتمرد"، حتى قرر أن يكون واقعًا يحياه، كان دائم التفكير في الهروب من الواقع الذي يعيشه، يشعر في داخله أنّه طير مهاجر أنّى له أن يستقر في وطن أو أسرة لا يشعر أنّه يتبع لها، لكنّه لم يفلح سوى في أن يهجر القرية التي نشأ فيها وأن يهجر أسرته، وينتقل إلى المدينة حيث العمل والحياة العصرية المنفتحة.. ربما بلا ضوابط.

لم تكترث زوجته يومًا ولم تلق بالا بمسألة بقائه معهم من عدمه، فلم تكن تأمل سوى المكوث مع أسرتها، ومواصلة تربية الأطفال بعيدًا عن صخب المدينة التي كانت تخشاه خشية اقتراب النار من الزيت. تؤمن الزوجة بأهميّة الأرحام، وعلاقتها مع ذوي القربى، اعتادت روتينا يوميًا يتمثل في زيارة الأهل والأقارب، حتى الجيران لم تنقطع عن زيارتهم.. تلك هي شيم ابنة القرية التي لم تتنصل منها أو تضيق صدرًا بها.

عادات وتقاليد

لكن "س.ص" كان يرى فيما تقوم به زوجته جزءًا من الحياة النمطية التي تسيطر على سكان هذه القرية التي يرى أنّه لا ينتمي إليها بأي شيء، فلا هو مقيم مع أهلها حتى تنشأ معهم علاقات ود وصداقة، ولا هو حريص من الأساس على هذا النوع من العلاقات. ذلك الشعور المخيب للآمال وعدم الانتماء إلى هذه القرية، دفعه إلى مواصلة الهروب من التماسك الأسري صوب غيابات قطع الأرحام. لم يجد لنفسه حياة في هذه القرية، وقرر أن يستمر في البحث عمّا يظن أنّها السعادة بعيدًا عن أهله.

ذات يوم أدرك أنّ ثمة فتاة على قدر من الجمال والثقافة والمعرفة، تقطن في نفس البناية التي يستأجر فيها شقة يعيش فيها وحيدًا، حاول التعرف عليها لكنّها أبت ورفضت في البداية التواصل معه. ظلّ يلاحقها مرة تلو الأخرى، أثبت لها حسن نواياه، وسعى جاهدًا ليتحدث إليها عما يدور في خلده، وأنه رجل جاد في علاقاته الأنسانيّة، ولا يريدها سوى زوجة تشاركه الحياة في هذه المدينة الصاخبة.

بعد مرور نحو شهرين، وافقت الجارة على التواصل معه، وبدا حديثهما يكسوه الجد ويغيب عنه الهزل، تعرفا على وجهة نظر كليهما إلى الحياة، العمل، الحب، الأسرة، كل ذلك وأكثر، فارتبطا سويا في علاقة انتهت بالزواج السريع. وكان الشرط بينهما مواصلة العيش في المدينة، فهي مثله لا تريد العيش في قرية بعيدة من حيث الزمان والمكان، كما طلبت ألا يلزمها بزيارة أسرته، فقط هي تريده وحده دون أية علاقات إضافية.

لم يرغب الزوج المقبل على الزواج من ثانية، أن يخفي أمره على أسرته، فأخبر أسرته بقراره، وفي البداية لم يصدق الجميع خطوته المفاجئة، لكنهم بمرور الوقت وبفضل الصفات الإنسانية وهرمونات النسيان، تناست الأسرة هذا الرفض وتحول الأمر إلى الموافقة على الزيجة الثانية.

وبالفعل تزوّج الرجل بجارته في المدنية، قضى شهوره الأولى من الزواج الجديد بعيدًا عن أسرته الأساسية، لم يكن يري أولاده ولا زوجته التي طلبت الطلاق فيما بعد ونالت ما تريد، سوى في المناسبات، شهر رمضان، الأعياد، أو حتى صدفة!

لم يتوقف هذا الهجر العائلي على أسرته الصغيرة، بل أيضا دخلت في دائرة الهجر أسرته الأكبر، فأمه لم تكن تراه إلا كل حين، وكان شاغلها الأكبر أن تنصحه بالحفاظ على أولاده، وأن يبرهم ويقسط إليهم بزيارتهم والعناية بهم.

وبعد مرور وقت من طلاق زوجته الأولى، التي حصلت على مرادها بعد ضغط من الزوجة الثانية على الزوج للموافقة على طلب "الضرة"، وهنا كانت بداية الانهيار الحقيقي للأسرة، لاسيما الأطفال الذين اكتووا بنار الفراق بين الأب الذي لم يكن لهم أبا ذات يوم سوى بالاسم، وبين الأم التي تبدلت فجأة وقررت البحث عن سعادتها الخاصة دون أي تفكير في مستقبل الأطفال ومشاعرهم النفسية. عاش الأطفال مع الجد والجدة، لم ينعما بعد ذلك بحنان الأم ولا الشعور بالأمن في حضن الأب، لم يكن لهم سوى الجد والجدة الطاعنين في السن، غير القادرين على تربية الأحفاد، فأنّى لهم التربية!

لم يستطع "س.ص" أن يتحمل عناء زيارة أولاده، فكلما زارهم تجددت شكوى الجد والجدة من هموم الأطفال، وزيادة متطلباتهم، وطلبوا منه صراحة أن يأخذهم بعيدًا عنهما، وأن ينتقلوا للعيش معه في المدينة، لكنّه كان دائم الرفض والتحجج بأنّ الوقت والظروف لا يسمحان، وفاقم من موقفه الرافض أنّ زوجته الثانية رفضت رفضا قاطعا عيش أبنائه معها.

كتب "س.ص" مأساة أبنائه حرفا حرفا وصفحة صفحة، ضغط بيده على زر التفكك الأسري بلا رجعة، عامدا متعمدًا، بكل أنانية وحب ذات، لم يفكر يوما في مصير هؤلاء الأطفال وتشريدهم عاطفيا ونفسيا من بعده، لم يكن يفكر سوى في مصلحته الشخصية، لم تفلح جينات الحنان ولا كروموزومات الأبوّة في أن تفجر في داخله مشاعر الحرص على الأبناء، فسقط في هوة سحيقة من التفكك الأسري، لا يعلم مداها إلا العلي الذي خلقهم.

تعليق عبر الفيس بوك