آن لموجة جلد الذات أن تنحسر

عبيدلي العبيدلي

إذا استثنينا الفترة التي أعقبت حرب يونيو/ حزيران 1967، عندما طغت على سماء المشهد الثقافي العربي موجة جلد الذات العربية تمظهرت في سلوكين بارزين، الأول منهما ذلك الساخر من الذات، وتحديدا من جيوش البلدان العربية التي خاضت تلك الحرب، وفي المقدمة منها الجيش المصري، الذي تحول إلى مادة ساخرة لاكتها الألسن قبل ريش رسامي الكاريكاتير، وكتاب الأعمدة الصحفية. السلوك الثاني، وهو الآخر شكل من أشكال جلد الذات، كانت التحليلات التي حاولت تشخيص أسباب تلك الحرب ونتائجها التي أدّت إلى تلك الهزيمة السريعة غير المتوقعة لتلك الجيوش. إذا استثنينا تلك الحقبة السوداء في تاريخ المشهد السياسي/ الثقافي العربي، فلن نجد لها حالة مشابهة سوى تلك التي نشهدها اليوم، مع اختلاف المادة التهكميّة، حيث حلّت الطائفية، والفئوية والتشظي السياسي والاجتماعي على حد سواء، مكان الجيوش العربية، واستشرت موجة نهش الذات في الكثير من الأدبيات العربية.

ما يضاعف من حدة هذه الموجة وسوئها، ومن ثم يعزز من سلبيات تأثيراتها، الانتشار اللامحدود لمواقع التواصل الاجتماعي، التي سهلت عملية التواصل، وزادت من سرعة انتقالها، ووضعت بين أيدي المتشفين، قبل الممتعضين، مادة دسمة، ووسيلة خارقة للتعبير عما يجيش في نفوسهم من مشاعر، وما يبحثون عنه من وسائل للتعبير عن حالة الإحباط التي تحاصر الذهن العربي، كما تطبق الإسورة بالمعصم.

بداية لا بد من الاعتراف بثلاث حقائق تساعدنا على تشخيص أسباب هذه الموجة العالية من جلد الذات، من أجل فهمها على طريق معالجتها: الأولى منها أننا نواجه هزائم متتالية على الصعيد القومي، البعض منها مرتبط بقوى خارجية، إقليمية ودولية معادية، لكن نسبة لا باس بها من الأسباب تكمن فينا نحن العرب دون سوانا من الأمم الأخرى، ومن ثم فنحن مصدرها. تختلف هذه الهزائم عن تلك التي عانينا منها في العام 1967، فهي ليست محض عسكرية، ولكنها مجموعة مركبة من الهزائم المتناثرة المتناسلة، تتحوصل في ظاهرة واحدة. أمّا الثانية، فلا بد من القبول بها على أنّها سلوك طبيعي لا يشذ فيه العرب عن سواهم من شعوب العالم الأخرى، بل وكما تعلمنا كتب التاريخ، عرفتها شعوب العالم التي خاضت بلدانها الحربين العالميتين الأولى والثانية في شكل موجات مشابهة من جلد الذات، وإن كانت بدرجة أخف، ولم تستمر وتتشعب على النحو الذي نمت عليه الظاهرة العربية التي نتحدث عنها. أمّا الثالثة، فهي تلك التي غالبا ما ترافق الحروب وتعبر عن نفسها في شكل موجة من التضييق على الحريات، والتشدد في مواجهة القوى المعارضة لتلك التي شنت الحروب، أو انخرطت فيها مجبرة، ومن ثم لا تجد شعوب تلك الدول ملاذا تلجأ له سوف جلد الذات من خلال السخرية منها، والتهكم عليها.

يبقى بعد ذلك القول إنّ تشخيص تلك الأسباب، لا يعني إطلاقا القبول بها أو الخضوع لقوانينها، بل إنّ السلوك الحضاري السليم هو التصدي لها، ومواجهتها، ليس من خلال السياسات القمعيّة وإجراءات التضييق على الحريات العامة، وإنما بسلوك قيم مدرسة أخرى تخالفها في المدخل، وتقضي عليها في نهاية المطاف. ولعل أول خطوة على هذا الطريق هي تسليط الأضواء على الأخطار التي تولدها هذه الظاهرة، والتي يمكن تلخيصها في النقاط التالية:

1. حالة الإحباط النفسي الجماعي التي تشيعها في نفوس المواطنين، فتحول بينهم وبين أي مشروع إيجابي يدعو للخروج من الأزمة، ويساعد على تجاوزها بعد إزالة أسباب تلك الحالة السلبية، واجتثاثها من جذورها قبل طرح البدائل لها. حالة الإحباط الجماعي التي نحذر منها تولد سلوكا لا مباليا ليس من الظاهرة فحسب، بل من سائر المسؤوليات الجماعية الأخرى، بما فيها العلاقات الاجتماعية، والسياسية التي لا يمكن أن يستغني عنها أي مجتمع.

2. اختفاء، وربما تمويه الأخطار الأخرى المتربصة بالمجتمع، بما فيها تلك التي تقف وراءها قوى خارجية، الأمر الذي يحرف قوى البناء من الفعل كي تحل مكانها جهات الهدم، بمن فيها تلك التي تسهل على القوى الخارجية الانقضاض على المجتمع، وإجهاض مشاريعه التنموية لصالح بدائلها التخريبية المدمرة.

3. زج قوى المجتمع الفاعلة في معارك داخلية تنهكها أولا، وتحرف أنظارها عن مشكلاتها الحقيقية، الأمر الذي من شأنه إدخال المجتمع برمته في دهاليز مظلمة تحجب عنه الرؤيا السليمة، وتحول دونه ودون مشروعاته التنموية، وهذا بدوره يقود الجميع نحو مصير مجهول.

أمام كل هذه الظواهر، يمكن القول إنّ الأوان قد حان كي تمارس قوى المجتمع دورها لضمان تراجع هذه الموجة من جلد الذات، كي تحل مكانها أخرى بديلة، تحمل في ثناياها عوامل التفاؤل التي تشيع الثقة في النفس، وتشجع الجميع على شحذ قواها من أجل الخروج من حالة اليأس إلى طريق الأمل.

نحن في أمس الحاجة اليوم إلى نسمة أمل تبدد غيوم التشاؤم والإحباط، لكنها نسمة بعيدة عن الأحلام الوردية الزائفة، وخالية من الأوهام المبنية على تخيلات غير واقعية. وفي غياب ذلك سيجد العرب أنفسهم ينحدرون في طريق هاوية نحو قعر عميق ليس له قرار.

الأهم من ذلك أنّ انحسار هذه الموجة من جلد الذات تحتاج أكثر من أي شيء آخر، إلى جهد يضمن وقف سلبياتها، قبل القضاء عليها.

تعليق عبر الفيس بوك