حديث الوداع

عيسى الرواحي

في نهاية كل عام دراسي يودّع أكثر من خمسين ألف طالب وطالبة التعليم النظامي بعد أن قضوا ما لا يقل عن اثني عشر عامًا في البيئة المدرسيّة، تلقوا فيها ضروبًا شتى من العلوم والمعرفة، ونهلوا من معينها صنوفًا كثيرة من اﻵداب والفضائل والقيم واﻷخلاق، وارتسمت في ذاكرتهم الكثير من الذكريات التي نحسبها أجمل ذكريات المرء في حياته ولا يكاد ينساها ما دام حيًا، فكل طالب أو طالبة سيتذكر أول يوم دخل فيه المدرسة وهو ابن السابعة، كما يتذكر آخر يوم فيها وقد قارب العشرين من العمر، وما بين أول يوم وآخر يوم في هذه المرحلة الدراسية والعمرية الجميلة بما حملته في طيّاتها من تربية وتعليم وشقاوة وتعارف وتآلف وقل ما شئت من حياة الطفولة ومرحلة المدرسة؛ فإنّها كذلك من أهم مراحل عمر اﻹنسان؛ حيث تشكلت فيها شخصيته، وبانت فيها معالم حياته، واتضح فيها طريق مستقبله بما تحمله نتيجة دراسته في آخر عام دراسي.

ومهما يكن من أمر شقاوة طلابنا وما حملته هموم تعليمهم وتربيتهم ومتابعتهم داخل البيئة المدرسيّة، ومهما يكن من مبلغ أخطائهم أو تقصيرهم وهفواتهم تجاه معلميهم ومعلماتهم؛ فإنّهم في البداية والنهاية أبناؤنا، وعدة مستقبلنا وتاج رؤوسنا، ولم يكن زجرهم أو ضربهم أو تعنيفهم أو القسوة عليهم يوما ما إلا من باب حبهم، وحب مصلحتهم والسعي بهم إلى دروب العلم والمعرفة، والمعلم كما هو معلوم رجاؤه وأمله أن يكون طلابه خيرًا منه.

سيودِّع أبناؤنا طلبة الدبلوم العام مدارسهم، وكلنا أمل ورجاء أن يطبقوا ما تعلموه من مناهجهم الدراسيّة وأساتذتهم الكرام على أرض الواقع، وأن يستفيدوا من المواقف المدرسيّة التي مرّت بهم بأخذ الدروس والعبر، وأن يستثمروا الكم الهائل من النصح والتوجيه الذي نالوه طيلة فترة دراستهم في بناء المستقبل.

وإنّهم إذ يتركون مدارسهم؛ لنتفاءل بهم أن يكون حب العلم والتعليم والمدارس والمدرسين قد انغرس في قلوبهم، وتغلغل في وجدانهم، فنراهم بين الفينة واﻷخرى زائرين لمدارسهم، ولمن نهلوا من علمهم وأخلاقهم الشيء الكثير، وأن يتابعوا إخوانهم الصغار ويتحسسوا أخبارهم، ويكونوا عونا لهم في علمهم وتعليمهم، كما نأمل أن يكون لمدارسهم حب وولاء يترجمونه قولا وفعلا؛ فهم إن كانوا باﻷمس طلابا فغدا رجال الوطن وساعده الأيمن.

وحيث إنّه ستتباين مستوياتهم ونتائجهم، وتتعدد اتجاهاتهم ورغباتهم، وتتنوع طموحاتهم وتطلعاتهم، فلا شك أنّهم مفترقون في معترك هذه الحياة؛ فكثير منهم من يواصل مشوار التعليم داخل أو خارج وطنه، وكثير منهم سيبدأ حياة العمل والكفاح وكسب لقمة العيش، وليس بقليل منهم من سيظل عاطلا في بيته لا علم ولا عمل إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.

فإلى أولئك الذين سيواصلون مشوار تعليمهم بدخولهم الصروح التعليمية العليا من الجامعات والكليات داخل وخارج السلطنة؛ نقول لهم إنّ مرحلة الدراسة الجامعية مرحلة مختلفة عن مرحلة الدراسة بالمدارس من نواح كثيرة؛ وعليهم معرفة ذلك، والحذر الحذر من رفاق السوء أو الانزلاق فيما لا يحمد عقباه، ولكم يسوءنا كثيرا عندما نرى بعض طلابنا قد تغير مظهرهم ما ينبئ بتغير جوهرهم! كما نؤكد لهم بأنّ فرصة الدراسة الجامعية فرصة ثمينة غالية فإيّاكم والتفريط فيها أو التهاون بها، وأنّها تستدعي منكم الجد والاجتهاد والمثابرة بأقصى درجات الاهتمام، وليس كل من دخل الكلية أو الجامعة تخرج منها، فما أكثر الذين خرجوا بسبب إهمالهم وتهاونهم وعدم مبالاتهم!

وإلى أولئك الذين سيبدأون حياة العمل والكفاح نقول لهم إنّ العمل الشريف عبادة يؤجر عليها صاحبها، وإنّه مهما كان دخل العمل أو موقعه أو نوعه فهو يستوجب اﻹتقان واﻹخلاص والتفاني في أدائه، فكونوا في أعمالكم مضرب مثل في التفاني والكفاح، فبذلك يبارك الله أرزاقكم، ويوفقكم إلى الرقي الوظيفي والمكانة اﻷفضل في سلم العمل والحياة.

وإليهم جميعا نقول إنّ سعادة المرء في علمه وعمله في تقوى الله، والقرب منه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأنّ اﻷخلاق الفاضلة والقيم الحميدة هي أكثر ما يثقل موازينكم يوم القيامة، وما يكسبكم محبة العباد، وإنكم - كمن سبقوكم مؤتمنون على التمسّك بالعادات العمانية اﻷصيلة أينما حللتم وارتحلتم.

وإلى جميع إدارات المدارس التي بها طلاب وطالبات الثاني عشر، لنأمل أن يكون ﻷبنائهم الطلاب والطالبات قبل أن يتركوا مدارسهم حفل وداع؛ ترسخ فيه أسس القيم النبيلة التي جمعت الطلاب بمعلميهم طيلة تلك السنوات الطويلة، ويتضمن هذا الحفل (حديث الوداع) يعطون فيه جرعة كافية من النصح والتوجيه واﻹرشاد حول مستقبلهم الدراسي والوظيفي، وسائر شؤون حياتهم.. والله المستعان.

issa808@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك