صراع الثراء والبقاء.. على خلفية الأرز الفاسد!

د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج

سلامة غذائنا أصبحت مصدر قلقنا المرتفع، فكل من يتابع ميدانيا، ويشاهد عبر وسائل الإعلام المحلية عمليات الضبط هنا، والاتلاف هناك، وحملات التفتيش اليومية على مدار الساعة، وأحكام قضائية متعددة غرامات وسجن وإبعاد عن البلاد، ينكشف له بسهولة ماهية صراع جديد - وإن شئنا تسميته بحرب فهو كذلك - بين تجار جل همهم الربح السريع حتى لو كان على حساب القيم والأخلاقيات وبين هيئة حماية المستهلك دفاعا عن حقنا المقدس في البقاء، وهذا يحدث - للأسف - رغم صدور القانون الجديد لحماية المستهلك، إذن الخلل في القانون؟ وربما نجده كذلك في اللائحة التنفيذية لهذا القانون التي لا تزال في مكتب مجلس الوزراء، فكم من جريمة كبيرة قد اكتشفتها الهيئة بعد صدور هذا القانون ويفترض أن تكون أمام القاضي هذه اللائحة المهمة؟

لا تتوفر لدينا الإحصائية، لكن تختزن ذاكراتنا أهم كبرى الجرائم الأخيرة، مثل جريمة حلويات الأطفال، حيث تمّ ضبط أكثر من (مليون) سلعة، لو وزعت على أطفالنا لكانت كفيلة بتدمير صحّتهم، ومثل جريمة (4) آلاف سلعة فاسدة، وأخرها جريمة الأزر الفاسد في بركاء يوم الثلاثاء الماضي، وما تزامن معها في اليوم نفسه، الكشف عن جرائم صغيرة في عبرى والبريمي وبركاء نفسها، ووقف تداول منتج (زوان10)هوت دوج دجاج وذلك لما يشكله من خطر على صحة وسلامة المستهلكين حسبما أوضحته الفحوصات المخبرية.. ومن المؤكد أنّ هذا شيئامقلقا، والقلق نصوره في صراع من أجل الثراء اللامشروع يقابله صراع من أجل حقنا في البقاء، فكيف لا يرتفع قلقنا على سلامة غذائنا، وهناك تجار يعملون على تحويل سوقنا إلى نفايات للبضائع والسلع الرديئة والفاسدة وقريبة انتهاء الصلاحية لو لا الهيئة العامة لحماية المستهلك، لكن يظل التساؤل قائما منذ عدة مقالات سابقة، كيف كان الوضع قبل إنشاء الهيئة عام 2011؟ أي خلال أكثر من أربعين عاما، وهل له علاقة بالأمراض الخطرة التي بدأت تظهر في مجتمعنا بنسب مرتفعة ومخيفة؟ مثل السرطان (1000) حالة سنويا، والسكري أكثر من(12%) من المواطنين مصابون به، ومثل النسبة تقريبا لمرضى الكبد.. والقائمة طويلة، ومن هنا يظهر لنا حجم الفاتورة المرتفعة التي تدفعها الدولة للصحة، ومنها نستشف عجز الصحة عن تأمين كل متطلبات صحتنا.. إنّه فعلا صراع مخيف بتداعياته الصحية المحتملة، نتمنى ألا نصل إلى أزمة ثقة مع تجارنا إذا لم نمكن هيئة حماية المستهلك من تأدية واجبها المقدس، ويؤسفنا أن نجد من بيننا ممن هم في ساحة البقاء، من يدافع عن التجار في قضية الأرز الفاسد، وذلك عندما ركزوا حديثهم التشكيكي على التواريخ رغم أنّ هيئة حماية المستهلك تؤكد بالدليل أنّ القضية الأساسية ليست في التواريخ.. وإنما في الأرز موطن الضبطية فهو فاسد بالتقارير المخبرية، وترجع السبب إلى سوء التخزين وتداخله مع الرطوبة والقوارض وغيرها، وهو ضار جدا بصحة البشر، كما أثبت أنّ الأرز موضع الضبطيّة ينقل من أكياس بمسمى تجاري وعلامة تجارية أخرى.. وهذا غش كبير للمستهلك.. وترى في رسالة متداولة ألا علاقة لها بموضوع الغش والتلاعب بالتواريخ والعلامات التجارية.. إذن هؤلاء عندهم مشكلة حقيقية في الوعي، وتطغى عليهم علاقتهم الشخصية الفوقية، فانتبهوا، فأنتم تقفون مع من في هذا الصراع؟ لم ولن ينتابنا أدنى شك في صدقية ما يتم اكتشافه من قبل هيئة حماية المستهلك، فهي تملك الآن الوعي الرفيع والقدرة العالية بحيث يمكن أن تحصن نفسها من الخطأ حتى لا تقع تحت طائلة القانون، وهي تعلم علم اليقين، أنّ بعض التجار يتربّصون لأي خطأ منها، وقد حاولوا الحد من دورها، فنجحوا في رفع يدها عن أسعار السلع الأساسية بحجة الاقتصاد الحر، لولا أنّها صدرت بأمر سام، لما كان لها وجود على الساحة حتى الآن، نعلم الخلفيات، وقد كتبنا عنها عدة مقالات، ولعل إحدى مقالاتنا السابقة عن لقاء لندن واستهداف رئيس هيئة حماية المستهلك، أفضل استدلال قدمناه ونقدمه عن محاولات البعض النيل من هيئة حماية المستهلك، واكتشافاتها المتواصلة والمتصاعدة تؤكد نجاحاتها، فالشكر كل الشكر لعاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- الذي اهتدى بفكره الثاقب إلى ضرورة وجود هيئة مستقلة لحماية المستهلك من جشع التجار وطمعهم في المال الحلال والحرام، وأوجد لها الأطر والفاعلين الذين يقودون معركة البقاء بكل وطنية وأمانة دينية، وهذا لن يكون كافيا، فلابد أن يقف الكل مع الهيئة بما فيها الحكومة الآن أكثر من أي وقت مضى، فهؤلاء التجار لم يتركوا لنا شيئا من مأكل ومشرب ودواء وهواء لم تطلها معركتهم نحو الثراء، وبالتالي، حتى لا يتحول سوقنا إلى نفايات العالم الآخر لابد من الوقوف مع الهيئة، وتعد خطوة استدعاء سعادة الدكتور الكعبي رئيس الهيئة من قبل مجلس الشورى خطوة إيجابية للوقوف على واقع الصراع وخلفياته، لكن لن يعذروا بعد علمهم بحجم التحديات والإكراهات التي تتعرض لها الهيئة، فلابد الإعلان صراحة عن وقوفهم مع رجالات الهيئة في صراعهم مع البقاء، فهم الذين ينبغي أن يعملوا على ترسيخ نجاح الإرادة السامية من إقامة هيئة مستقلة ومتخصصة لحماية المستهلك، وطلب حضور سعادة الدكتور الكعبي إلى مجلس الشورى يفتح لنا رؤية سيرهم نحو ذلك، ونلمس ذلك في تغريدة سعادة سلطان بن ماجد العبري الذي تساءل فيها قائلا: ألم يئن الأوان للإفراج عن اللائحة التنفيذية لقانون حماية المستهلك؟ ويستفسر عن أسباب تأخيرها، إذن، المطلوب من مؤسستنا التمثيلية الوقوف مع الهيئة، ونقترح عليهم بعض المرئيات بحكم علمنا بالواقع وخلفياته، أبرزها طلب إعادة النظر في قانون حماية المستهلك الجديد فورا، لدواعي تغليظ بعض مواده، والعمل على حمل القضاة - عبر مواد قانونية - على إنزال أقصى العقوبات بدلا من التوجه الحالي الذي يسير نحو العمل على تخفيفها في المراحل لقضائية النهائية، وكذلك إدخال فقرة سحب الجنسية (المكتسبة) ممن يتورطون مباشرة في جرائم كبيرة، فالوطن فتح أبوابه لهم - وافدون تجار أو مستهلكين أم مكتسبوا الجنسية - وعاملهم الوطن مثل المواطن، يتمتعون بالدعم الحكومي كاملا في مختلف جوانب الحياة سواء في السلع الأساسية المدعومة أو في الكهرباء والمياه أو الغاز... إلخ وتسري عليهم مظلة الأمن والأمان أسوة بالمواطن، فهل ثلاث سنوات سجن وخمسة آلاف ريال غرامة ردعية؟ أمّا إذا ما كانوا تجارا مواطنين بالجنسية الأصلية، فإنّ السجن المغلظ وسحب الوكالة منهم، والتشهير بهم، هي عقوبات رادعة، كما نقترح نقل تبعية مركز مختبرات الأغذية والمياه من وزارة البلديات الإقليمية إلى الهيئة العامة لحماية المستهلك، لأنّها الجهة التي فرضت نفسها من جهة ولأنّ ذلك سيعزز جهودها، فهذا المركز رغم أهميته لم نسمع عنه شيئا سوى في قضيّة التوصية بسحب ذلك المنتج، ومن قام بسحبه؟ طبعا الهيئة، إذن، لماذا لا يكون المختبر ضمن صلاحياتها؟ كل ذلك سيساعد الهيئة على الدفاع عن حقنا في البقاء في حربها ضد مجرمي الثراء اللامشروع، ومن المؤكد أنّه في حالة تبني مثل تلك العقوبات سيسارع التجار إلى الكشف عن السلع والبضائع الفاسدة من تلقاء أنفسهم- كما يحدث الآن للبعض - فكيف لو صعّدنا العيار قليلا؟ سننظف سوقنا من نفايات العالم الآخر، ونحصنها من الميكافيليين، فلماذا يقف البعض ضد التشديد؟ ألا يأكلون ولا يشربون من أسواقنا مثلنا، ويشترون الدواء من صيدلياتنا مثلنا، ويستنشقون الهواء من سمائنا مثلنا أم لهم أكل خاص وشراب مخصوص ودواء عالي الجودة مضمون؟

نجدد شكرنا وتقديرنا الرفيعين للجنود المجهولين في كل من حماية المستهلك والادعاء العام وشرطة عمان السلطانية.. فأنتم (فعلا) استثنائيون في مرحلة سلبت العولمة منّا الكثير من القيم والأخلاق، فماتت الضمائر، وبموتها، لم تعد الوسيلة مهمة، وإنما النتيجة مهما كانت الوسيلة قذرة، إنّه مبدأ الأمير ميكافيلي الشهير - الغاية تبررها الوسيلة - الذي يقوم عليه النظام الراسمالي، فغاية الربح السريع من أجل الثراء الفاحش، يدفعهم إلى بيع الحلويات الفاسدة لأطفالنا، أكثر من مليون سلعة فاسدة أرادوا تمريرها للأطفال، فهل ستمنعهم ضمائرهم من الكبار؟ إذن لماذا لا نتشدد مع الجرائم الكبيرة التي تمس حقنا في البقاء؟ وتسهم في تكريس نظام اقتصادي يقوم على طبقتين، الأولى، جل همها الثراء، والثانية البقاء؟

تعليق عبر الفيس بوك