صحار مدينة التاريخ والجمال .. خزانة الشرق ودهليز الصين

صحار - الرؤية

عندما تشرق الشمس من بحر عمان، تخرج مغتسلة لعناق مدينة قُدّت من الجمال، أو قدّ الجمال من بين ثناياها، عندما تشرق الشمس تميل ظلال المدينة ناحية الغرب، فينتثر العبير في الأرجاء .. فلا يبقى جمال صحار وعظمة تاريخها، وهي الأقدم والأجمل بين المدن العمانية، رهن المساحة المجاورة للبحر، بل يمتد إلى ما هو أبعد.. شمالاً وجنوبًا، وشرقاً وغرباً، بل حتى صعودا ناحية الأفق الغربي.

عندما تقرر أن تذهب إلى صحار فعلى عينيك أن تكونا على استعداد تام لاستيعاب الجمال، والحُسن، والتَّاريخ الذي تضمه المدينة. وعلى أذنيك أن تكونا على دربة لتستعيدا أصواتاً مرت من هنا في غابر الأزمنة .. صوت نهام ينشد قبيل رحلة إلى الصين وآخر يشد عزيمة بحارة يرفعون شراع رحلة إلى الهند.

هل هذا المشهد بكل ما يحمله من جمال هو الذي يدعوك لزيارة صحار.. بكل تأكيد لا.. فإضافة إلى جمال وتاريخ هذه المدينة هي اليوم ساحة تجتمع فيها الأصالة والمُعاصرة، قلعة صحار المطلة حتى المحيط والمصغية لكل تفاصيل التاريخ العماني وميناء يعد الأهم على المحيط اليوم.. صحار اليوم تكاد تُعانق مكانتها التاريخية التي تحدَّث عنها الاصطخري في كتابه "مسالك الممالك" بقوله "قصبة عُمان هي صحار، وتقع على البحر، وتقصدها المراكب، وهي أعمر مدينة بعُمان، وأكثرها مالاً، ولا تكاد تعرف على ساحل البحر بجميع بلاد الإسلام مدينة أكثر عمارة ومالاً من صحار".

عندما تدخل مدينة صحار وتعبر بوابتها/ قلعتها، تشعر وكأنك تعبر بوابة الزمن لسبر أغوار تاريخ المدينة.

كل شيء هادئ في الطريق المؤدي إلى عمق صحار، النّاس تعبر إلى حيث تشاء، لا يشغلها إلا أن تملأ أعينها من الجمال المطروح في الطريق، كل شيء هنا يبهج العين ويُريحها؛ ليس الجمال الطبيعي وحده، بل حتى رائحة التاريخ المدفونة هنا وهناك. وإذا كان المعري قال متأملا "ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد؟" فإن صحار تجيز الخروج عن الشعر، رغم أن تاريخها مع الشعر والشعراء طويل وغائر في العمق، لتقول "وهل أديم صحار إلا من ذلك التاريخ، وتلك الحضارات التي تعاقبت عليها؟". سؤال حريٌّ أن يطرح في مثل هذه المُدن المتخمة بالتفاصيل التي كانت وراء نشوء الحضارات، المدفونة في عمق التراب، أو بين صفحات الكتب.

في مطلع سبعينيات القرن الماضي بدأت البعثات العالمية المعنية بالتنقيب عن تلك الحضارات المدفونة الانتباه إلى صحار، فكان أن وصلت بعثة دنماركية بإشراف الباحثة كارين فريفلت التي أجرت الكثير من البحوث والدراسات للتعرف على بيئة صحار ومقوماتها الزراعية والعمرانية، وكشفت حينها النقاب عن عدد من المواقع التي يعود تاريخها إلى نهاية الألف الثالثة قبل الميلاد. ولم تكن بعثة كارين الأخيرة في سلسلة البعثات التي جابت صحار تنقب في آثارها، فكان أن أعقبتها بعثة من جامعة هارفارد الأمريكية برئاسة الباحثة بياتريس لوكابي وكانت مختصة بالآثار الإسلامية. ثم عادت باحثة فرنسية تدعى مونيك كارفران مرة أخرى للتنقيب في صحار.

والباحثة الفرنسية تمركزت أبحاثها وتنقيباتها حول قلعة صحار، وبالمناسبة هي التي نظمت المتحف الموجود في القلعة وكشفت تلك الأبحاث عن الكثير من تفاصيل المدينة وتاريخها حيث كشفت التنقيبات عن بقايا آثار إلى الألف الأولى قبل الميلاد، حيث عثر على أختام للتجار، وعلى بعض أنواع الفخار الهندي الأحمر، والبورسلان الصيني، وكشفت التنقيبات الأثرية عن وجود نظام ري مُتقدم في المدينة عبر الأفلاج، وكان النحاس يستخرج ويصهر في المناطق القريبة منها.

وعندما تزور صحار، ولا تمر على قلعتها الشامخة فأنت لا تُعانق الجمال إلا من طرفه، لكن صدره النَّافر يكمُن في عمق القلعة التاريخية.

وتستكين القلعة وهي تُسامر البحر، وتصيخ السمع لأمواجه وهي تحكي حكاية صحار الخالدة. كان البحر أبعد عن القلعة مما هو عليه الآن. لم يطق كل ذلك البُعد، رغم أنّه في لحظة الأنواء وساعة الثورات العاتية يصلها، ويقترب منها أكثر، لم يطق أن يكون بعيدًا، فقرر ذات فجر أن يقترب أكثر، وأكثر حتى يُعانقها، فكان له ما أراد، لولا مساحة صغيرة لصناعة اللحظة الحاسمة، والفارقة التي تسبق العناق السرمدي. يقول البعض إنّ قلعة صحار اغتسلت بالبحر سبع مرات، فاكتسبت قدسيتها وصارت تستحق أن يحج النّاس إليها ويزورونها نظرًا لمكانتها التاريخية.

ستقول لك القلعة أيضًا إنها تتميز عن بقية قلاع عُمان بوجود سرداب يخرج منها إلى منطقة في الصحراء تدعى "حورا برغا" يمتد إلى حوالي 35 كيلومترًا، كان يُستخدم وقت الأزمات وحصار القلعة. وقد قامت الباحثة الفرنسية مونيك كارفا والباحث الأمريكي فريدرك فريفت من جامعة بنسلفينيا بوضع مُجسات في القلعة وفي وسط المدينة لتتبع هذا النفق العظيم ويقال ثمة انهيارات حدثت في أزمنة حديثة تؤكد عظم النفق الذي تقول مصادر تاريخية أنّه كان يتسع للفارس الذي يمتطي صهوة جواده. وفي ركن في القلعة يمكن لك أن تشاهد بداية النفق الذي ينطلق إلى المجهول الآن.

ورغم الخلاف بين علماء الآثار حول تاريخ بناء القلعة إلا أنّ البعض يُرجح الرأي القائل بأنّ تاريخ بنائها يعود إلى نهاية القرن الثالث عشر وبداية القرن الرابع عشر الميلادي، حيث توضح الحفريات الأثرية المُكتشفة حول القلعة في عام 1980 أن بناءها يرجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي وأن "أمراء هرمز" هم الذين قاموا ببنائها في عهد ملوك بني نبهان. وتحولت القلعة حديثًا إلى متحف يضم تاريخ صحار، كل تفاصيل المدينة يمكن أن تقرأها من المتحف الذي افتتح عام 1993.

صحار بهذا الوصف وبهذا المعنى ليست وجهين فقط، وليست التاريخ ورجع صداه، لكن صحار لمن يراها اليوم مركز تجاري بدأ يستقطب تجارة المنطقة، ويحلم القائمون على تطويرها أن تكون مركزًا تجاريًا وصناعياً لا مثيل له في منطقة الشرق الأوسط، وهي عندما تصبح كذلك، فإنما تجتر شيئاً من تاريخها الموغل في القدم. هي اليوم مركز تعليمي أيضًا، باعتبار التعليم فعلاً تراكمياً للوصول إلى الحلم الأكبر. وصحار اليوم ملتقى قلّ نظيره بين الأصالة والمعاصرة، وبين الطبيعة ومفردات التاريخ الذي خطه الإنسان، وبين شاطئ متخم بالحسن، وبحر ثائر لا يكاد يهدأ.

تعليق عبر الفيس بوك