تحوُّلات الأعوام المنسية

معاوية الرَّواحي

2002 فصاعدا..!

كُنت طالبا في الجامعة عندما تيسَّرت لي للمرة الأولى فرصة "لقاء" المثقفين العُمانيين الذين نقرأ لهم في "شرفات"، ولمن لا يعلم ما هي "شرفات" قبل مجيء الزمن المجاني للفيسبوك والإنترنت بشكل عام، فإنَّ "شرفات" -الأوراق الملحقة بجريدة "عُمان" كل أربعاء- كانت ذات يوم المكان الذي يحصل فيه الكاتب الشاب على شارة البداية، وعلى صك الاعتراف من قبل المؤسسة الثقافية.

كانت تفاصيل المشهد الثقافي غير مُعقَّدة، وغير مُتشابكة. المثقفون يتنقلون من جريدة لأخرى، وينشرون القصة والمقالة، مُحمَّد الحارثي ينشر مقالة نارية شرسة بين الفينة والأخرى. ونصوص لمختلف الأدباء. المترجم بدأ لاحقا يشارك "المثقف" في الكتابة، والأديب كعادته يكتفي بنشر أشعاره وقصائده أو مقتبسات من كتاباته في النص المفتوح. زمان اعتقدنا أنه ليس جميلا في وقتها، وكثر ما حاولنا تغييره، وكثر ما كنا ننقده ونهاجمه.

يُكمل المشهد الثقافي قلة من البرامج الثقافية، تسمع فيها صوت صالح العامري، وسليمان المعمري، وهلال البادي. مقابلات عادية تركز على "فعل الكتابة" بدلا من "أفاعيل" الكتابة كما حدث لاحقا. كانت أياما بسيطة وجميلة.

لم يكن الإنترنت منتشراً وقتها، كان الاتصال ضعيفا ورديئا، والخدمة غير متوزعة خارج مسقط، المنتديات كانت تركز على المواضيع الشعبية، ومنتديات الثقافة والفكر والأدب هي الأقل زيارة في الإنترنت، ربما ما عدا منتديات الشعر النبطي التي لم يخفت بريقها منذ أن أنشئت. كان من النادر أن تسمع شيئا عن مقال في منتدى ما لم يكن نُشر قبلها في "شرفات"، أو نشر قبلها في "القدس العربي". ما أبسط ذلك الزمان!! وما أجمله !!!

2005 فصاعدا..!

تغيرت خارطة الأشياء قليلا. ولد وحشٌ كاسرٌ اسمه "الإنترنت"، أصبح أكثر تداولا من السابق. دخل منافساً في سوق الكتاب الهادئ والرتيب. ظهر شيء جديد اسمه "الكتابة الوطنية"، واختلفت التعريفات حول مفهوم "الكتابة الوطنية"، حدث الغلاء العُماني الذي نقل أسعار إيجار الشقة من تسعين ريالا عُمانيا إلى مائتين وسبعين، وانفجرت الأقلام التي عانت من الذي حدث.

الحلم العُماني المعتاد الذي كان يسمح للشاب "بقرض واحد فقط" ببناء بيت متواضع، وشراء سيارة متواضعة، والزواج من امرأة متواضعة لا تكسر ظهره، هذا الحلم انكسر أيضا. المثقف الذي كان يكتب عن الزهور والسماء وعن مغامراته في السفر، عن حزنه واكتئابه أصبح، أيضا يكتب عمَّا يعيشه ويشاهده ويراه. بدأت الفردية تتمظهر، وتتكون، وتتبلور.

لم يعد يسمع إنسان عن "شرفات" إلا قليلا. الجيل القديم المعتاد على الأدوات الأصيلة القديمة واصل عمله دون اهتمام بالضجيج، ولسان حالهم يقول: مرت علينا هذه الضجة من قبل، وانتهت.

سنكذب لو قلنا أنهم لم يخبرونا، نعم، ولكننا لم نصدق، كان بريق السماء أجمل من أن نصدق مجيء الظلام.

2008 فصاعدا..!

إنَّه عصر الإنترنت والتدوين. المنتديات التي احتكرت الحراك الإلكتروني لزمن طويل أصبحت "خبر كان" التدوين، والفيسبوك ترافقا في توجيه مختلف الضربات إلى تلك المؤسسات بأقفالها ومزاجية مشرفيها، الفردية، العولمة، والإنسان العالمي الجديد، أفكار نشأت ذاتياً، وتولدت الطاقة من العدم. عصر الرفض وكلمة: لا لأي شيء، ولكل شيء أحيانا.

دخل العدميون، والمتفائلون، والغاضبون، والحاقدون، والعاشقون، والشعراء، والكتاب، والإعلاميون، وكل أنواع البشر إلى الساحة الحرة، ساحة الجميع التي لا ترفض أحدا. لم تعد تكفي خمس ساعات لقراءة كل ذلك "الزخم" الفردي، وبدا لنا وكأن الفردانية ستكون هي "الحقيقة الدامغة" إلى أبد الآبدين، هل حدث ذلك؟ طبعا لم يحدث.. ولكن الحلم كان جميلا للغاية.

ثلاث سنوات كاملة، كانت الصناعة هي العامل الرئيسي في كل تلك "الحريات"، وليس أي عامل آخر. الصناعة في مودم شركة "هواوي" وشركة النورس التي أوصلت "المودم" إلى كل منزل. ثلاث سنوات من اشتراك الريال الواحد اليومي الذي جعل الإنترنت في كل مكان فعلا، ثلاث سنوات من الخيارات التجارية ومن التنافس التجاري، وشركة آبل وشركة سامسونج، وشركة جوجل.

نسينا قليلا أن سعر الشقة التي نسكنها أصبح ثلاثة أضعاف واكتفينا بحياة افتراضية واسعة وضيقة في وقت واحد. انشغل كثيرون ببيع الأراضي، وصارت كلمة "مليون ريال" كلمة غير غريبة، حيث تولي وجهك هناك من باع أرضا "بمليون ريال" وكأن كل الأراضي لها السعر نفسه. ثلاث سنوات، ألف يوم من الغليان الذي أدى إلى ما أدى له لاحقا. مليون ريال في بيع أرض، ومليون ريال في شراء رقم سيارة، كان كل ذلك جديدا على عُمان.

هناك في تلك الحقبة ظهر من يسمون الآن "بالنشطاء". الفردية تحدد تعريفها؛ لذلك تحدد هذا التعريف في المرحلة الدقيقة تلك بهذا الشكل، من هم النشطاء؟ ليس من المهم التعريف وقتها، ولكن المهم الفعل، المدونون في جانب، والنشطاء في جانب، والكتاب في جانب. فقط الجيل القديم كان يقول لنا: هذه حالة مؤقتة ستزول.

تبًا لهؤلاء العواجيز: لماذا يحبطوننا؟

الحماس المشتعل يلعب بالرأس: لن تزول هذه الشعلة، ولن تموت.. النار سرقت من الجبال البعيدة.

2011 فصاعدا..!

أسفر ذلك الزخم عن نهاياته المتوقعة. وكأن كل ما قيل لم يكن، وكأن كل ما كان لم يقل. انفلت العقد، وخرج العُمانيون للشوارع. اعتصامات رفعت اسم القائد في وجه الجَميع، ورفعت الولاء في وجه الأسماء.

يستجيب القائد ولم يخذل شعبه. ويمر الوقت، ويعود الجَميع إلى منازلهم.

ولكن: هل كانت هذه نهاية الزخم؟

لا.. لم تكن أبدا كذلك.. إن الملفات قد فتحت.. ولم تغلق.

2012 حتى الآن..!

سحب الدعم عن الثقافة بشكل كلي، وتركت يتيمة بعدما كانت مدللة من قبل الحكومة.. سقط المثقف العماني تحت الإغراء والتربح.

بدأ بروميثيوس في دفع الثمن. كل عام يأتي يحمل أملا بأنه العام الأخير من الخصام المحتدم بين المثقف والحكومة. العام الأول 2012 شهد الخصام الأكبر، جاء الذي بعده 2013 بخصام أقل، وجاء 2014 ليكون أقل من العامين السابقين، والعام الفائت، وهذا العام.

الأشياء ليست بذلك السوء، هناك مساحة للتفاؤل. المثقفون تصالحوا أخيرا، مدوا أيديهم لبعضهم البعض وتناسوا العداء، إلى خصام، والخصام إلى خلاف، والخلاف إلى اختلاف. بشكل خجول للغاية، تولد الأشياء مجددا من رحم الرماد، مبنى الثقافة يشعل الأضواء بعد أن قطعت عنه الكهرباء سنوات متتالية.

كل هذه التحولات، وعد ببدايات قادمة، ما حدث كان يجب أن يحدث.. خفتت النار، والجبال البعيدة تكسوها الثلوج، إنه موسم البداية ووعدها القادم، المليء بالنسيان والغفران!

تعليق عبر الفيس بوك