موجز تاريخ الجنون.. تطور الطب العقلي ومأسسة الجنون

فيصل الحضرمي

نواصل في هذه المقالة استعراض أهم ما جاء في كتاب "موجز تاريخ الجنون"للمؤرخ البريطاني روي بورتر، وكنا وصلنا إلى عصر الأنوار حيث بدأ الفلاسفة والعلماء بمهاجمة الكنيسة التي كرست ربط الجنون بالأشباح الأرواح الشريرة وراحوا يتهمونها بالتسبب في جنون أتباعها نتيجة تطرفها في تصوير الجحيم والعقوبات الأخروية بطريقة تبث اليأس في نفوس المؤمنين بها وتدفعهم إلى الانتحار. وأصبح التدين ذاته، سيما بعد عقود من الدمار الناجم عن الحروب الطائفية في أوروبا، موضوعاً مرضياً في رأي الكثير من المفكرين الذين سيسير سيجموند فرويد على نهجهم فيما بعد، وما زالت أفكار عصر التنوير بخصوص الجنون والموضوعات المتعلقة به تمثل الأساس الذي ينطلق منه منظرو الجنون في وقتنا الحاضر.

يتتبع الكتاب النشأة الأولى للطب العقلي حيث شهد النصف الثاني من القرن الثامن عشر تحولاً كبيراً في مقاربة الجنون نتيجة الاستيعاب المتزايد لنظريات جون لوك وكونديلاك حول طبيعة الإحساس والمدركات الحسية، إذ جرت الاستعاضة عن "الأفكار الفطرية الديكارتية بصورة للعقل رأت فيه أساساً ورقة بيضاء". فقد كان جون لوك قد اقترح في كتابه "مقالة في الفهم الإنساني") 1690) وجود علاقة سببية بين الجنون والترابطات الخاطئة التي تحدث أثناء تحويل معطيات الحواس إلى أفكار. بعدها شرع وليام جولن، عميد كلية الطب في جامعة أدنبره، في طبننة أفكار لوك، وقام بإنتاج "أنموذج أكثر سيكولوجية للجنون.. وإذ عزاه إلى تهيّجات مفرطة في الأعصاب، فإنّه رأى أنّ السبب الذي يعجل بحدوث الجنون كائن في النشاط الدماغي الحاد". فالجنون بحسب جولن ليس إلا اضطراباً عصبياً يتسبب في نشوئه حدوث تباينات على مستوى مثيرات الدماغ. وكان جولن أول من استخدم مصطلح "العصاب neurosis" للإشارة إلى أي مرض ناجم عن اضطرابات في الجهاز العصبي. وفي عام 1780، قدم توماس أرنولد تصنيفاً مرضياً للجنون ميز فيه بين "الجنون الذهني" (الهلوسة) و"الجنون التصوري" (الوهم). وهكذا، صار لزاماً على الطبيب "من الآن فصاعداً، أن ينكب في بحثه على نفس المريض "psyche" كما تظهر في سلوكه، عوضا عن التركيز على أعضاء الجسد".

وفي فرنسا، برز كتاب "الأمراض العقلية" لجين إيتين دومينيك إسكيرول (1772-1840) "بوصفه النص الطبعقلي الأكثر تميزاً في زمانه"، وفيه يؤكد على المثيرات الاجتماعية-السيكولوجية للاضطرابات العقلية، مع تشديده على الطبيعة العضوية لهذه الاضطرابات. وقام إسكيرول بإنشاء عدة مستشفيات مخصصة للمصروعين قبل أن يكثر انتشارها في دول أخرى كبريطانيا وألمانيا وأمريكا. كما كان لغاليوم دوشيبه إسهاماته العديدة في هذا المبحث وكان في مقدمة من وصفوا "تنكس الشخصية" و "الاختلاج الحركي" واضطرابات عصبية أخرى. أمّا مارتين شاركو، الملقب "بنابليون العصاب"، فقد كانت عيادته "قبلة الأطباء العقليين وأطباء الأعصاب، وكان فرويد من بين الأطباء الذين درسوا على يديه هناك".

وكان "فاتح اللاوعي" سيجموند فرويد تتويجاً لمسيرة حافلة للطب العقلي في ألمانيا حيث كان يوهان كريستيان رايت أول من نحت مصطلح "الطب العقلي" مع بدايات القرن التاسع عشر. ثم تتالت إسهامات رائد الطب العقلي الجنسي، ريتشارد فون كرافت إيبين، و الطبيب إرنست سليبن "الذي جمع بين الاتجاهين النفسي والجسدي داخل طب عقلي مبني على مفهوم الشخصية". كما كانت لماكسميليان جاكوبي الريادة في ربط الأمراض النفسية بالمنشأ الجسدي. إلا أن فرويد يشكل طفرة عملاقة في سيرورة الطب العقلي بشكل عام لابتكاره طريقة التحليل النفسي وابتداعه فكرة "الجنسية الطفولية" المجسدة في "عقدة أوديب" التي يرى فرويد أنّه "لو لم يكن للتحليل النفسي منجز يفخر به سوى اكتشاف عقدة أوديب المكبوتة، فإنّ هذا الاكتشاف ينهض ليكون واحداً من المكتسبات الجديدة والثمينة للجنس البشري".

تحدّث الكتاب أيضاً عن مأسسة الجنون وتناول تاريخ أماكن الإيواء والمصحات التي عنيت باحتجاز المتهمين بالجنون وتقديم العلاج لهم. وقد كان الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من أشهر من كتب في هذا الموضوع وذلك في كتابه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، 1961"، وفيه يرى أنّ "ظهور النظام السلطوي المطلق في فرنسا لويس الرابع عشر دشن سجناً أوروبياً كبيراً للمجانين والفقراء، ما مثّل حركة من القمع الأعمى. فغدا كل أولئك الهائمين الموصومين بوصمة الجنون بصورة فاضحة للقانون والنظام أهدافاً للاحتجاز في عملية تمشيطية مهولة للشوارع، ومثّل الفقراء المعدمون وصغار المجرمين والمتبطلون والمتشردون، والمتسولون تحديداً، الأغلبية العظمى من هذا الجيش الرهيب من غير العقلاء".

وبحسب فوكو، فإنّ هذا "السجن الكبير" تجاوز العزل الجسدي إلى ازدراء الجنون و ردّه إلى "سلب محض" كما لو كان "يمثل حالة من انعدام الآدميّة". وهذا الازدراء، برأي فوكو، هو الذي دفع إلى تشبيه نزلاء المصحات ومعاملتهم "مثل الوحوش المحجوزة في أقفاص". غير أنّ الكاتب ينتقد آراء فوكو ويرى فيها إفراطاً في التبسيط وإغراقاً في التعميم. فباستثناء فرنسا، "لم يشهد القرن السابع عشر اجتياحاً هائلاً لعملية المأسسة" كما ذهب فوكو في كتابه. ولم تشرف الدولة على مراكز إيواء المجانين في إنجلترا وروسيا مثلاً إلا مع بداية القرن الثامن عشر. ومع ذلك يؤكد بورتر على وجاهة الكثير من آراء فوكو بهذا الخصوص.

كتاب "موجز تاريخ الجنون" حافل أيضاً بكثير من التفاصيل الأخرى التي تتماس مع موضوعة الجنون سواء بشكل مباشر أو غير مباشر مما لا يسمح المجال بذكره هنا، وهو كتاب يمثل إضافة مهمّة لأدبيات الجنون والاضطرابات العصبية ومرجعاً غنياً للباحثين في تاريخ الطب العقلي، كما يقدم للقارئ غير المتخصص ساعات ممتعة من إشباع الفضول حول هذه الثيمة التي كانت وستظل مصدر إلهام للفنانين والأدباء ولغزاً عصياً على العلماء والباحثين في هذا المجال.

تعليق عبر الفيس بوك