التشكيك والتخوين

زاهر المحروقي

إذا كنا عانينا كثيراً في الوطن العربي من مشكلة اسمها "التكفير"؛ فإنّ هناك مشكلة أخرى لا تقل أهميّة عن تلك، وهي مشكلة "التخوين" والتي ارتفعت وتيرتها كثيراً مؤخراً في أوساط بعض الكتاب والمغرِّدين في مواقع التواصل الاجتماعي، خاصةً بعد استدعاء الكاتبين عبد الله حبيب وسليمان المعمري للتحقيق؛ وهي ظاهرة سيئة ونوع من الاستعجال لأنّ التحقيقات ما زالت جارية، فليس من داعٍ إلى القفز فوق النتائج وتوجيه التهم جزافاً، وكأنّ كلَّ من يغرِّد أصبح له الحق في أن يحتكر الوطنية في نفسه أو أن يوزعها على من يشاء، وكأنّه أصبح قاضياً رسمياً ملماً بحيثيات الأمور، تماماً كما يفعل معلقو برنامج "الدكة" في القناة الرياضية، عندما يتحدثون وكأنّهم مُلمّين بكلِّ شاردة وواردة عن الأندية وأسرارها، وسرعان ما يتبين أنّ كلَّ معلوماتهم التي كانوا يقدمونها إنما هي من باب "سوالف الرمسات" ورجماً بالغيب.

إنّ الفكرة يجب أن تناقش بالفكرة، وهذا منطق عدل؛ أما أن يتم تناسي الموضوع ويتم التركيز على الأشخاص، فهذا يدلُّ على حجة العاجز وعلى الإفلاس، وقد ظهر هذا جلياً في بعض الكتابات التي تناولت عبد الله حبيب وسليمان المعمري، لدرجة أن يتم تناولهما في أعراضهما ويتم تخوينهما والتشكيك في وطنيتهما، ولكن بالمقابل نجد أنّ هناك كُتاباً فنّدوا ما قاله عبد الله حبيب، وكانوا موفقين تماماً في ردودهم، مثل عبد الله العليان في مقاله في صحيفة الفلق تحت عنوان "حوار هادئ مع الكاتب عبد الله حبيب"، وكذلك زهران زاهر الصارمي في مقاله "رسالة مفتوحة للحبيب عبد الله حبيب"، إذ تناول الكاتبان فكرة مقال عبدالله حبيب، مفندَيْن ما جاء فيه من أخطاء - حسب رأيهما- دون أيِّ تجريح شخصي أو تخوين أو تشكيك؛ واستطيع أن أقول إنّ المقالين كانا مقنعين تماماً لما جاء فيهما من حجج.

أنا أختلف تماماً مع ما ذهب إليه عبد الله حبيب في مقاله ذلك - وهذا حقي- وأعلم أنّه لا توجد دولة في العالم تسمح بانفصال أي جزء عن الوطن، فهذه حقيقة ومعروفة؛ ولكن بالمقابل فأنا ضد التشهير والتشكيك في وطنية كلِّ من له رأي، لأنّ مسألة التخوين هي مسألة كبيرة ولها تبعات كثيرة، يكفي أنها تخلق العداوة بين المواطنين أنفسهم، وكيف أنّها كانت باباً من أبواب تصفية الحسابات الشخصية في كثير من الأوطان؛ ومن هنا فلا يمكن أن نخوِّن عبد الله حبيب أو سليمان المعمري، الذي اختلف مع حبيب في فكرته ولكنه ضد اعتقاله؛ فوطنيةُ سليمان المعمري مثلاً - باعتبارنا زملاء في العمل- يشهد عليها الكلُّ، وكذلك وطنية حبيب، ولا يمكن المزايدة عليها، ويجب أن نترك الأمر للجهات المختصة بدلاً من إثارة زوبعة لا معنى لها عبر منتديات الحوار، فقد يكون لها الأثر السيء.

يبدو أنّ مفهوم الحرية قد اختلط عند البعض، فأصبحنا نقرأ سباً وقذفاً وشتماً بما يتنافى مع أبسط مبادئ الحرية، ويعتقد هؤلاء أنّهم بذلك يمارسون حريتهم في التعبير، وهذا يعيدني إلى مقال سابق نشر في الرؤية عدد 19/6/2012، تحت عنوان "أنت حر.. ما لم تضر"، ذكرت فيه كيف تم تشويه سمعة بعض المعتقلين حينها، خاصة المعتقلات بأن تم تناول سمعتهن وشرفهن حتى وصل الأمر إلى نشر صور بعضهن وقد تمّ التلاعب بها عبر "الفوتوشوب"، وهي قضية شبيهةبما يحدث الآن، وقد قلت في ذلك المقال: "من المثير الآن أننا نعاني أزمة في الوعي العام وأصبح من يتناول الشأن الوطني والشأن العام في منتديات الحوار لا يملك الوسطية في الرأي، فإمّا أن يجنح إلى أقصى اليمين أو إلى أقصى اليسار، حيث اختفت الوسطية من المتحاورين إلا ما ندر، وكان من نتيجة ذلك أن ظهرت فئة لا همّ لها إلا في انتقاد الحكومة وكأنّ الحكومة شر مطلق؛ فيما الفئة الأخرى تدافع بشدة عن الحكومة وكأنّها دون أخطاء تذكر، وإذا ما تناول أحدٌ موضوعاً مّا بالإشادة فإذا هناك من يتهمه بأنّه من المطبلين، وإذا تناول أحدٌ موضوعاً مّا بالنقد، فإذا هناك من يتهمه بأنّه جاحد لا يشكر النعم؛ وهذا يدل على أنّ الشباب انفتحت أمامهم قنوات اتصال دون وعي لمعنى الحرية، وأنّ الفاصل بينها والفوضى هي شعرة دقيقة يراها المبصرون بالبصيرة لا البصر، ومن هنا يمكن لنا أن نعرف حقيقة القول بأنّ حرية الإنسان تنتهي أمام حريات الآخرين وأنّ الإنسان ليس حراً في أن يؤذي الآخرين، ومن حق أيِّ مواطن أن يعبر عن رأيه وله الحرية في ذلك شرط ألا يتجاوز الحدود بالقذف والشتم والإهانة، ومن حق أيِّ مواطن أن يعبر عن رأيه دون أن يتسبب في فتن تشعل النار في الوطن وتسبب التفرقة بين المواطنين".

إننا فعلاً بحاجة إلى أن نفتح عقولنا للحوار، وأن نكون بعيدين عن مبدأ التخوين والتشكيك، وأرى أنّ القضية لا تستاهل تلك الضجة المثارة حولها، وكان يمكن أن يتم حلها بالتي هي أحسن، وما زال الأمر كذلك حتى الآن، ولكن تبقى مسألة التشكيك والتخوين من أخطر المسائل التي بدأت تطل برأسها البغيض، فأمامنا تحديات كثيرة تحتاج إلى مراجعة وإلى إصلاح بدلاً من الاشتغال بقضايا جانبية.

تعليق عبر الفيس بوك