كيف أصبح مطبلا؟

أسماء القطيبيَّة

الطبلة آلة موسيقية إيقاعية شعبية قديمة، تُعزف في المناسبات، وتتميز بعلو صوتها مما يثير حماسة المستمعين ويدفعهم للتصفيق والرقص على أنغامها، ولما كان من غير اللائق استخدام الطبلة في المناسبات والاحتفالات الرسمية فقد، استعيض عنها بطبلة مكونة من كلامات مجوفة المعنى -كالتجويف في الآلة- تؤدي نفس الغرض في إثارة حماس الجمهور ودفعهم للتصفيق. أما العازف هنا أو المطبل فتتمثل وظيفته في قرع آذان الجماهير الحاضرة بالحديث عن حسنات السلطة التي يقع تحت امرتها، مضيفا إلى خطابه شيئا من المبالغة و الأكاذيب من أجل تلميع صورة السلطة التي يمثلها غالبا الحاكم، وهذا المطبل قد يكون كاتبا أو شاعرا أو صحفيا أو إعلاميا أو أي فرد في المجتمع حين تسنح له الفرصة للحديث في التجمعات المختلفة.

والتطبيل ليس أمرا مستجدا، فكتب التاريخ مليئة بقصص المطبلين الذين يزاد عددهم كلما كانت السلطة أكثر استبدادا وفسادا؛ فمثلا في العصر العباسي كان عدد المطبلين من الشعراء المادحين للسلطان أكثر مما تتسع له قصور السلطان ومجالسه، ولم يكن تحلق هؤلاء يثير أي ضيق في نفس الحاكم ووزرائه بل كان ذلك مما يزيد البهجة في صدورهم، كون هؤلاء المطبلين هم الملمعين لصورة السلطان الفاسدة أمام الناس، وبالتالي فحاجة السلطة إليهم نابعة من حاجتها لفرض نفوذها وسيطرتها على الناس، بالإضافة إلى أساليب العنف والتخويف المعتادة. كما أن هذا التطبيل يعد بمثابة المخدر الذي يسكن ثورة الناس على الفساد أو يؤجلها على الأقل.

ولكن ما السبب الذي يجعل أحدهم يصبح مطبلا لسلطة ما؟ بالطبع فإن أول الإجابات التي تتبادر إلى الذهن هي المصلحة التي يجنيها المطبل من هذا السلوك، فعادة يطبل للسلطة الأشخاص المستفيدون من عطاياها وهباتها، وكلما طبلوا أكثر وبإحترافية أكبر كلما استحقوا مزيدا من التكريم بالمال والمنصب والوجاهة الإجتماعية. فعطايا الملك الكريم مبالغة وسخية كما تماما كالخطب الرنانة. وعن هؤلاء يقول ممدوح عدوان: "المثير للإهتمام ان هؤلاء المفوهين لا يجهلون انعدام تأثير كلامهم، هم يعرفون انهم يقولون كلاما مجترا ومحفوظا بلا معنى وبلا مشاعر، ويعرفون أنهم ينافقون، والجمهور يعرف، لا أحد يخفي عن الأخر شيئا"، لكن ذلك لا يهم، طالما أن المكان والوقت دائما محجوزين لمطبل مهيأ لتمجيد السلطة، وجمهور مستعد للتصفيق بضجر.

المصلحة الشخصية ليست السبب الوحيد لظهور المطبل، فالتربية والتعليم التي يتلقاها الفرد منذ نعومة أظافره في الدول المستبدة، لها دور كبير في التنشئته على الولاء الأعمى، والإنقياد العاطفي، هذا عدا المناهج والأنشطة المدرسية التي تجعل من الوطنية وحب الحاكم موضوعا واحدا لا يمكن فصله، كما أن هناك خطيب الجمعة الذي لا يفوت فرصة ليذكر بضرورة طاعة ولي الأمر، والتحذير من الخروج عن طاعته كون ذلك جحودا بالنعمه وكفرا بعطايا الله. وهناك الإعلام التطبيلي الذي يصور الحاكم بأنه المنقذ، المحقق لأمنيات الشعب، عدا الخطب وأغاني التطبيل المتكررة، كل هؤلاء يشكلون شبكة متلاصقة الخيوط لا تترك المجال للفرد للخروج منها لرؤية الأمور على حقيقتها إلا بشق الأنفس. وإلا فإن استكانته للوضع سيجعله رقما جديدا يضاف لأعداد المطبلين.

وقد يكون التطبيل ردة فعل حادة تجاه حالات الاستبداد الشديدة، يكتسبها الإنسان المقهور بعد أن تقوم السلطه بتجريده من قيمه الذاتيه واعتزازه بها وتغرس فيه عقدة النقص التي يسعى لتعويضها لاحقا بالتعلق بالسلطة. ففي كتاب التخلف الإجتماعي يرى مصطفى محمود أن اخطر ما قد يصير إليه الناس جراء استبداد السلطة هو التماهي بالمتسلط، سواء التماهي بأحكامه أو بقيمة و أسلوب حياته أو حتى عدوانه فيقول: ".....تبلغ العلاقة مع المتسلط في هذه الحالة أشد درجات السادومازوشيه: قبول التسلط والرضوخ له، في جو من الإفراط في رهبة جانب المتسلط والإعجاب به في آن. وينتج عن هذه الظاهرة انشطار القيمة الإنسانية، توجه كل القيم الإيجابية (القوة والمنعة والتفوق) إلى المتسلط، وكل القيم السلبية إلى الإنسان المقهور".

Asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك