بحكم المجتمع.. طاقات شبابية مهدرة

زينب الغريبية

كل عام يتخرج من الدبلوم العام ما يزيد عن (40) ألف طالب وطالبة، ولا يمكن لفرص التعليم العالي أن تستوعب كل هذا العدد، إلا أنّها في السنوات الأخيرة استقطبت ما يقارب من ثلاثة أرباع الخريجين، ولكن يبقى الحال كما هو عليه، قبل حصولهم على شهادة البلوم العالي أو البكالوريوس من مؤسسات التعليم العالي الحكومية والخاصة، في مختلف التخصصات، فلا يجدون فرصة العمل المناسبة لهم، وربما لا يجدون ما يرضي طموحهم، وربما من جهة أخرى لا ترضي مستوياتهم المهارية، ولا حتى المعرفية مطالب الوظائف المتاحة في القطاعين الحكومي والخاص- وإن تعددت الأسباب في هذه القضية إلا أنّها ليست محور حديثي هنا- ونظل ندور في نفس الفلك.

تعلمنا أم لم نتعلم فنحن كما نحن لم نضف شيئًا لوضعنا، لاسيما الأشخاص الذين لا يحسنون التعلم، أو بعبارة أخرى الذين لا يميلون للتعلم والالتزام بحضور الدروس والتركيز فيها والبحث عن المعرفة، فهذا لا يستهوي الكثيرين من شبابنا؛ لذا نجد المخرجات تفتقر للكثير من المهارات والمعرفة، ولكن ساد عرف المجتمع على أن احمل شهادتك فهي سلاحك، في زمن يحتاج إلى شهادات كي تعيش، والواقع الذي لا يعيه الكثيرون أن الشهادة قد توصلك إلى بداية الطريق، فحين تعتقد أنك قد أنهيت تعليمك وحصلت على الشهادة واستلمت الوظيفة أنك أنهيت المشوار وضمنت الحياة؛ تكتشف عندما تتسلم الوظيفة أنك تكون قد بدأت مشوار حياتك في بداية عمر الشباب، في ظل الكثير من المتغيرات والتطورات التي تستلزم الكثير من المهارات والحركة والتحمل والصبر، وكبح كل التحديات لبناء الحياة، وشق الطريق نحو المستقبل الذي ستعيش فيه، فتشعر حينها أنّ الشهادة لا تنفعك بمفردها فأنت بحاجة إلى مهارات إضافيّة لتنمو وتكبر، وأحيانا هي خارج نطاق عملك الذي جلبته لك الشهادة.

هنا يبرز الأفضل فهو من يمتلك المهارات أو بعبارة أخرى" الصنعة" أو "الحرفة"، الأفضل في تكوين الحياة الأكثر استقرارًا وطمأنينة بتوفير المتطلبات الأساسيّة والثانوية التي يحتاجها الإنسان كي يعيش، فالحرفة التي يسعى الإنسان لتطوير نفسه عليها، ثم تطوير طريقة تقديمها للمستهلك، سينمو ويكبر ويحقق ذاته فيها، ويصبح حينها مفعول الشهادة باطلا، بالطبع لا أقلل من قيمة جميع حملة الشهادات من الكليات والجامعات، ولكنني أركز على المهارات والحرف التي تفيد حاملها بقدر ما تفيد المجتمع، وبها نقضي على شيئين، منها نصنع فرص عمل لكثير من الشباب، ومنها نستغني عن العمالة الوافدة التي تقدمها لنا بأسوأ المواصفات، وكثير من القدرات الشابة لدينا تستنكف عن العمل في مثل تلك الحرف المطلوبة بحكم طبقية الأعمال، واستنقاص هذه المهن، والحقيقة أنّ هذه الأعمال تكاملية وضرورية بضروة الحياة، وكل شخص حسب إمكاناته في العلم والمعرفة، ومن منطلق أنّ المهارة التي توجد لدى شخص قد لا يمتلكها شخص آخر، فلو وجد النجار والحداد وصانع الفضيات، والسبّاك والكهربائي والميكانيكي والقائم على تجارة الفواكه والخضروات، والمزارع والصيّاد والبنّاء، بجانب الطبيب والمهندس والمعلم والكاتب والموظف الإداري والمدير والطيّار، هنا تظهر تكاملية المجتمع، وأن كل شخص من هؤلاء يحتاج بالضرورة إلى كل القائمين على الخدمات والأعمال الأخرى، ولا يمكن أن نحتقر مهنة ما، ونعلي من شأن مهنة أخرى، فما يقوم به صاحب حرفة ما يمتلك مهارة لا يمكن أن يمتلكها الموظف الإداري حامل شهادة البكالوريوس، وقد يدفع الأخير لصاحب الحرفة ما يقارب من نصف راتبه في عملية إصلاح واحدة في بيته، وعليه فبطبيعة الحال أنّ صاحب الحرفة من الناحية الاقتصادية سيكون أفضل وضعا من الموظف الحكومي الذي ينتظر مبلغا ثابتا يتقاضاه شهريا، في حين أنّ تطوير صاحب الحرفة لمهاراته، وأسلوب تقديم خدماته، سينمو بها عمله، وممكن أن ينافس في السوق التجار الذين سبقوه بسنوات.

تحكمنا المجتمعات بنظرات متخلفة مدعاة لتدهور أوضاع الأجيال، فهم يفضلون الجلوس في البيت من حملة الدبلوم والبكالوريوس على الإقدام لامتهان حرفة ما من الممكن أن يبدعوا فيها، خشية نظرة المجتمع القاصرة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، مما يزيد من معدلات الإعالة، والبطالة وما يصاحبها من مشكلات مجتمعية وربما أخلاقية وأمنية، وما زال المجتمع لا يعي أن تربية الأبناء على الحرفة والعمل الحر الجاد قد ينجيهم من كل هذه المهازل، وينجي أجيالنا من تلك الشخصيات المنهزمة التي تشعر بأنّها إن لم تستطع إكمال التعليم وربما لعدم امتلاكها القدرات الذهنية الكافية لإكمال العلم، أو عدم رغبة البعض المضي في المزيد من التعلم والمعرفة؛ فتنتج لدينا شخصيات تشعر بأنّها في ضياع لأنّها لا تستطيع التعلم، فلن تستطيع الحصول على شهادة، إذن لن تحصل على وظيفة، وبعدها فلن تعيش، أو قد يضطر أحدهم لأن يعمل في شركة براتب قد لا يكفيه لسكنه ومعيشته الشخصية لو عمل في مدينة غير التي يقيم فيها أهله، فيفني عمره في حاجة وتقتير، والحل بين يديه وفي استطاعته، ولتكن مثل هذه الأعمال القليلة الدخل في الشركات لمن لا يملكون القدرات الحقيقية لتكوين صنعة خاصة بهم.

لا نحتاج لكليات ولا معاهد لتعليم الصنعة، فما نحتاجه هو التدرب لدى شخص ضليع في المجال، يعمل الشاب لديه لفترة مقابل إكسابه الحرفة أو الصنعة، وبعدها بقدر ما يقدم ويعطي في صنعته فستعطيه، وبقدر ما يطور مهاراته فيها سيتطور.

حين لا يكون الطريق مريحًا، فلا بأس في تغيير المسار، ولكن لابد من اختيار المسار الصحيح، كي يصل الإنسان إلى المستقبل بشكل صحيح، ولا يمكن تحديد قدرات جميع الأفراد في بوتقة واحدة، أو أن نهمل قدراتهم مرة واحدة، فقد قامت الحياة على الاختلاف، وبه تكتمل الحياة، ولكن حين تدار الأمور بشكلها الصحيح سنصبح مجتمعًا منتجًا بأكمله، والمهمة الأهم في هذا الصدد تحال للأسرة؛ فمنها تنبثق العقول وقد تشكلت في تكويناتها الأساسية، ثم تكمل عليها المدرسة ليكتمل تشكيل قناعات تلك العقول بما يعود عليها النفع بداية ثم ينعكس على المجتمع، والأجيال القادمة.

تعليق عبر الفيس بوك