إشكاليّة المصلحة الاجتماعيّة.. في دوائر صناعة القرار

د. عبدالله باحجاج

تبرز فعلا تلك الإشكالية في ضوء ما طرحناه في مقالنا الأخير الذي عنونّاه "2016 عام الصدمة.. قراءة في الربع الأول" وقد أوضحنا فيه حجم التداعيات الاجتماعية الناجمة عن الإجراءات والسياسات الحكوميّة في الربع الأول من عام 2016، وأوضحنا أنه كان الأكثر تضررا في مجالات مصيرية وطالبنا بضرورة مراجعتها في الربع الثاني للزوم التوازن المعقول بين تطور المجتمع وتطور الاقتصاد، مدللين على أهمية القوة الاجتماعية، وأهميّة تعزيزها باعتبار أن ركن السكان من أركان الدولة الأساسية، وهنا الإشكال الذي نلفت الاهتمام السياسي إليه، خاصة وأنّ ظرفيّة امتصاص صدمة العام 2016 قد تجاوزناها، وأصبحت الأمور تتجه نحو التحسّن التدريجي، ومن ثمّ علينا الانفتاح سريعًا على مسألتين مهمتين، هما، عدم وقف تطور المجتمع، والبحث عن الحلول والبدائل من مسارات القوى وليس أركان الدولة، ومن خيارات الحكومة العديدة التي تثقل كاهل موازنة الدولة وليس تحميل التبعات المجتمع - يراجع المقال-.

مرد الإشكالية هنا، غياب (الديناميات/القوى) مثل الأطر الفكرية والفاعلين المستقلين داخل دوائر صناعة القرار التي تعنى بالتخطيط وتدبير الشأن العام، وبنظرة سريعة، سنجد بعض القوى في تلك المؤسسات على نوعين، الأول قوى تغلب البعد الاقتصادي على البعد الاجتماعي بحكم كونها تجمع بين موقعين، موقعها الرسمي داخل مؤسسات حكومية تخطيطية واقتصادية عليا "كالتخطيط والاقتصاد" وموقعها الخاص كونها صاحبة شركات ومصالح كبرى في البلاد، فكيف ستعمل ضد مصالحها الخاصة في موقعها الحكومي؟ والثاني قوى صنيعة تلك القوى الاقتصادية، فكيف ستعمل ضد من أتي بها إلى هذه المواقع؟ وهذا خلل غير منكور في بنية تلك المؤسسات التي تتحمل الآن مسؤولية اتخاذ الإجراءات والسياسات وإعادة هيكلة منظومة الدعم وإصلاحات في البلاد لمواجهة الأزمة النفطية بحلول دائمة.. إلخ كان يفترض أن يكون هناك نخب وطنيّة فكريّة مستقلة تتبوأ مراكز متقدمة في دوائر صناعة القرار في المؤسسات التخطيطية والاقتصادية، فالصوت الاجتماعي فيها غائب، أو يكون حاضرًا عندما تستجد ظروف اجتماعية ضاغطة، أو يكون هناك رأي عام تصنعه وسائل التواصل الإلكتروني، كما أننا لا يمكن الرهان على مجلس الشورى، ربما مستقبلا إذا ما تمّ تفعيل صلاحياته،، تنظيرًا وممارسة، وكذلك أنظمته الداخلية والتي تؤدي الآن بأعضاء بارزين إلى الانسحاب من بعض جلساته المهمة، أو اختيارهم اللقاءات المكتبية بدلا من ممارسة الأدوات البرلمانية، نحاول هنا النفاذ إلى القناعة السياسيّة بأهميّة النخب الفكرية المستقلة في تلك الدوائر، وبضرورة وجود مركز للدراسات مستقل كذلك، للزوم تأمين مجموع المصالح في البلاد، وليس فقط المصلحة الاجتماعية رغم أنّها شغلنا الشاغل في كل مقالاتنا من منطلق اعتدادنا بالركن الديموغرافي واستحقاقه التنموي سواء في الأزمات أو السير الاعتيادي للمسيرة، كان يستوجب القيام بإعادة هيكلة تلك المؤسسات والدوائر قبل منحها تلك الصلاحيات الوطنية الكبرى التي سوف تعمل من خلالها على صياغة المرحلة الدائمة للبلاد من واقع الأزمات القديمة والحالية، فوجود كفاءات فكرية وطنية مستقلة في الهيكلية البنيوية لدوائر صناعة القرار في البلاد، كانت مسألة ضرورية لضمانة التوازن والحيلولة دون جنوح المصالح الاقتصادية والحكوميّة على حساب المصلحة الاجتماعيّة، وهذا يضعنا أمام الأسباب الحقيقية التي تجعل المصلحة الاجتماعية تدفع الثمن أكثر من غيرها خاصة في الأزمات، ولو استدعينا الأزمة النفطية في منتصف الثمانينيات التي هبطت فيها الأسعار النفطية إلى (12) دولارًا للبرميل، فسوف نقف على استدلال مقنع، ففيها اتخذت الحكومة سياسات واجراءات مؤلمة جدا على المجتمع، لا نبالغ إذا ما قلنا أنّ تداعياتها لا تزال مؤثرة على الكثير ممن أحالتهم إلى التقاعد الإجباري فجأة ودون علم مسبق، فقد كان كل موظف مستهدف، يتفاجأ صباحا بإقالته فوق مكتبه، ومن خلاله اهتزت أوضاع أسر كثيرة، ورمت بالعديد من الموظفين في مجموعة أمراض مزمنة؛ يعانون منها إلى الآن، لأنّ راتب التقاعد الهزيل قلب أوضاعهم عاليها سافلها، والشيء نفسه يحدث منذ اندلاع الأزمة النفطيّة الحالية في منتصف 2014 التي انهارت فيها الأسعار النفطية من أكثر من مئة إلى أقل من ثلاثين دولارا للبرميل، فواجهتها تلك المؤسسات بتجميد حقوق أساسية للموطنين مثل الترقية والتوظيف والتراجع عن التعمين... إلخ وفي الوقت نفسه، تقوم بإعادة هيكلة واصلاحات منظومة دعمها للمجتمع نحو زيادة سقوفها المالية - كما سبقت الإشارة - وكلها تزيد من إرهاق المرتبات الشهرية المجمدة وتعمّق أزمة الباحثين عن عمل في القطاعين الحكومي والخاص، فهل لنا تصور مشهدنا الوطني الحالي وتداعياته؟ وهو كالتالي، وقف الترقيات والتوظيفات.. أي جمود الوضع المالي لأغلبية المجتمع، والتراجع الواضح عن سياسة التعمين، أي أرجعونا إلى نقطة البداية، وإضافة أعباء مالية جديدة/ضرائب ورسوم/ على المجتمع بصورة تصاعدية، والنتيجة المفترضة من شقين: الأول، جمود تطور التنمية الاجتماعية من خلال وقف الترقيات والتوظيفات وتراجع التعمين.. والثاني، حتى هذا الجمود لم يسلم من المساس، حيث تحاصره من كل الجهات ضرائب جديدة ورفع سقف الرسوم والضرائب، مما قد نشهد إضعافا- وليس ضعفا- على المرتبات المجمدة وعجزها عن تأمين الاحتياجات الاجتماعيّة الأساسية، هذه رؤية استشرافية تتوقف على استمرار الحكومة في سياساتها وإجراءاتها المتخذة في الربع الأول من عام الصدمة، نقدمها كتحليل استقرائي موضوعي للفت الانتباه السياسي من جهة والعمل على استدراك الوضع قبل أن يتأسس على تلك الاختلالات من هنا، طالبنا في الجزء الأول من هذا المقال بضرورة تقييم الربع الأول من المنظور الديموغرافي -السكان- وفي ضوء الخصائص السكانية التي أشرنا إليها في ذلك المقال، والتعاطي مع الربع الثاني بإجراءات وسياسات تفكك أو تخفف الجمود ومن زيادة الأعباء التصاعدية المباشرة على المجتمع، وهذا ما يدفع بنا الآن إلى التأكيد على أهميّة هذا التقييم والانفتاح على التداعيات المحتملة قبل وقوعها، ووقوعها سيمس ركنا من أركان الدولة، فمن المعروف عالميا، أنّ الدولة - بالمفهوم المجرد - تتكون من ثلاثة أركان أساسية هي الإقليم والسكان والسلطة السياسية، والكثير من فقهاء القانون الدستوري يضيفون ركن رابعًا وهو السيادة.

ذلك توضيح مبسط للطرح سالف الذكر، مما يظهر الاقتصاد هنا كقوة من القوى المهمة التي تعزز أركان الدولة، في المقابل، يظهر السكان كركن من أركان الدولة، والفرق واضح بين الركن والقوة رغم أن لكل واحد منهما أهميته الاستراتيجية، لكننا نقدمهما من خلال مواقعهما الوظيفية للتأكيد على ضرورة الدينامية الفكرية المستقلة في دوائر صناعة القرار أسوة بنظيراتها الاقتصادية، وللتأكيد أكثر، ينبغي القول كذلك أنّه وطوال مسيرة بلادنا الماضية، ظهر السكان بميزة إضافية أخرى، وهى القوة، وقد اطلقنا عليها في مقالات سابقة بالقوة النووية التي تعزز الجبهة الداخلية لمواجهة مختلف التحديات الداخلية والخارجية، مما يجمع الآن بين كونه - ركن وقوة- في تلازمية معاشة داخل دولة تعيش في محيط إقليمي متصارع سياسيًا وأيديولوجيا وعسكريا، وهذا ما يستدعي تمثيله داخل مؤسسات ودوائر صناعة القرار التخطيطي والاقتصادي، وتمثيله يكون في مواقع متقدمة، كالثاني، والمصلحة نفسها، تحتم أن يكون هناك مركز للدراسات لتقديم مرئياته الاستشرافيّة لتداعيات السياسات والإجراءات. حتى يتم تصحيحها وتصويبها في الأوقات المناسبة بدلا من جعل تداعياتها تتراكم حتى تنفجر في أية لحظة.

تعليق عبر الفيس بوك