في لغط انتخابات جمعية الكتاب الأخيرة

حسين العبري

أثناء انتخابات الإدارة الجديدة لجمعيّة الكتاب والأدباء حدث شيءٌ من اللغط، إن صح التعبير. تم خلاله، إلى حد ما، تبادل بعض الاتهامات بين الطرفيْن الراغبيْن في القيادة بكسر الأصول الديمقراطية للعملية الانتخابيّة. حدث هذا اللغط بين المجموعات المُثقفة بشكل متكتم عليه أحياناً، ووجد أحياناً أخرى طريقه إلى صفحات شبكات التواصل الاجتماعي. وفي حين بدت صورة الحدث الانتخابي زاهيةً إلى حد كبير، وهي ما تزال كذلك في رأيي، إلا أنّ البعض، وخصوصاً من هم خارج كار الثقافة والكتابة، وجد في هذا اللغط ما يُقوض المنظر العام للكاتب العماني أو حتى المثقف العماني، المنظرَ الذي هو أصلاً متقوضٌ لأسباب كثيرة ليس هنا مجال الحديث عنها.

أدّى هذا اللغط في أحد تداعياته إلى أن يُشهر البعض اعتزاله عن العمل الثقافي الجمعي، احتجاجاً على أمرين فيما يبدو: سير العملية الانتخابية من جانب، وفوز قيادة معينة بهذه الانتخابات من جانب آخر. وفي حين لا يبدو، على الأقل بالنسبة لي، الأمر الثاني إلا نوعا من ردة فعل نفسية غير مبررة، فإنّ الأمر الأول يبدو معقولاً كفايةً ليثير الحساسية. مع هذا، فالاعتراض على سيرورة العملية الانتخابية ظناً أنّ هناك من حاول متعمداً كسرها بمعاول ألاعيب معينة، هذا الاعتراض كان لا بد أن يكون حاضراً قبل ليلة الاقتراع. أمّا دخول الاقتراع، ومن ثمّ الاعتراض لاحقاً بعد بيان القائمة الفائزة، فقد بدا كما لو أنّ المُعترِض وافق على الاستمرار في العملية الاقتراعية مُؤمِلاً فوز قائمة ما فلمّا أنْ فازت الأخرى شكك في العملية الانتخابية برمتها. بكلمة أخرى، بدا كما لو أنّ اعتراضه احتجاجٌ على فوز القائمة التي لم يرشحها.

أحد التداعيات الأخرى للّغط الذي حصل كانت أشد وقعا؛ فقد رأى البعض أن المبدأ الديمقراطي الذي تسير عليه الانتخابات في الجمعية نفسَه غير جدير بالتمسك به، مُدعياً أنّ بعض الأصوات أثقلُ من بعض، وعليه فلا بد أن يكون وزنها الانتخابي أوقع في العلمية الانتخابية. هذا الرأي كان يشير من طرف خفي أحياناً ومن طرف علني أحياناً أخرى إلى أنّ بعض الكتاب بنتاجهم الثقافي أو الأدبي أو الكتابي (الغزير أو المعروف على أقل تقدير) وسنوات خبرتهم في المجال، وربما حتى نشاطهم الإداري الثقافي، يستحقون أن يُسمَع لهم أكثر وأن يكون صوتهم أقوى. ولا يمكن من هذا إلا فهم أنّ هذا البعض يرى أنّ الأعضاء غير متساوين، وفي هذا ما فيه طبعاً من تعالٍ وإقصاء للآخر. ظهر ذلك واضحاً حين قام أحد الأعضاء، الذي اعتبره البعض غيرَ فاعل في الشأن الكتابي، بالسؤال عن بعض الأمور المالية الدقيقة، ما جعل الحساسية إزاءه تطفح والشكوك حوله تدور؛ فإما أن تكون الأسئلة قد دُست في فمه من أجل إحراج بعضٍ آخر، أو أنّه تعمّد الحضور ليسرق الوقت الثمين الذي تقضيه الجمعيّة العموميّة معاً كل سنتين. وقد أعلنها البعض صراحة بعد ذلك في ساحات التواصل الاجتماعي أنّ المبدأ الديمقراطي الذي تنتهجه العملية الانتخابية لا يمكن أن يُشكل العدالة في أسمى تمظهرها. ولا يمكنني أن أتخيّل أمراً أسوأ مما قام به أحد الأعضاء الذي وسع دائرة الاتهام درامياً حين أوضح أنّ العملية الانتخابية وفوز القائمة التي فازت يمكن أن يدخل في عداد "التردي الأخلاقي" للجمعيّة، وأنّ جمعيةً هذا شأنها فالأولى تركها أصلاً.

مع كل هذا اللغط والحساسيات والأقاويل، ما كان منها مناسباً وما كان مبالغاً فيه، لا بد أن نعي أنّ الانتخابات والفوز والخسارة هي أمور واقعية أرضية لا يمكن الالتفاف حولها. وما حصل سواءً من تجاوزات محتملة أو صحيحة ومن محاولة لتكبير الذات بتصغير الآخر، لا يتعدى مع ما هو متعارف عليه ومقبول في أي انتخابات عامة. وعليه فإنّ الردات النفسية والبيانات الصارخة والاعتزالات أمرٌ طبيعي؛ فلا يمكن أن يفوز الجميع ولا يمكن أن يرضى الجميع. ولا بد أن نعي أيضاً أنّ الانتخابات هذه شكلت تجربةً جيدةً لقياس حساسيتنا تجاه النقد وتجاه مفهوم الديموقراطية (بمعنى المساواة في الأصوات). كذلك فقد شكلت هذه التجربة نقطة توقف للنظر في الأبعاد والأوهام والتصوّرات التي يتغذى بها الكتاب والمثقفون من قبل تنوير المجتمع و"دَمَقرَطَتِه" و"لَبرَلَتِه" وتحري شعارات الحق والحرية والعدالة؛ فهذه جميعها، كما في كل تجربة واقعية، قد تتساقط أثناء التنفيذ، وهي بحد ذاتها ليست إطارات خالصة خالية من التعقيدات والإشكالات، ولا هي مما يمكن زرع حسناتها بين يوم وليلة بدون تجربة وإعادة تجربة.

وربما لا يمكنني أخيراً إلا الإشارة إلى نظرة الآخرين التي يمكن نعتها، في أطيب الأحوال، بالظريفة. وأقصد بالآخرين هنا غير الكتاب والمثقفين، وكذلك الكتاب الذين ينزعون أنفسهم من "مسبة" الثقافة في محاولة لإعلاء الذات من أوطار المثقفين ومشاكلهم. فأفراد هاتين الفئتين لديهم أيضا تصوّراتهم الزائفة عن الكتاب والمثقفين؛ فمع تلك النظرة الاستحقارية أحياناً أو المتأففة والمتهجّمة في أحايين أخرى، والتي تقبع داخل عقولهم وتغذي بياناتهم وكلامهم، يقومون بوضع إطار معيّن لصورة المثقف أو الكاتب، صورة مُتخيّلة لا يمكن أن تكون واقعية أبداً، بل ترفع من إطار المثقف "الحقيقي" حتى يكون ملاكاً ومن ثمّ تحاكمه بمقاييس ذلك الإطار وتسارع بتعنيفه وتهويل أفعاله البشرية العادية. وهذه النظرة المثالية رغم شكلها الذي يُعلِي من "المثقف المفترض" إلا أنّها مبنية أصلاً كردة فعل للتنقيص منه والتقليل من دوره ومحاولة لتهميشه. فلا يمكن أبداً نسيان كون المثقفين والكتاب أناساً من لحم ودم في نهاية المطاف؛ فهم ليسوا أبطالاً يصنعون المعجزات ولا ملائكة مبرأة من الهفوات، وهم ليسوا بديلاً من حراك الفرد وفعاليته الذاتية في مجتمعه. ولكل هذا وذاك، فإنّ لغطاً مثل ذلك اللغط الذي حدث في انتخابات جمعيّة الكتاب إنما هو نوع من التعبير عن الحياة والرغبة في تفعيل الإرادة، والذي وإن لم يلبِ توقعات البعض فقد أظهر رغبة عارمة في المضي قدماً.

تعليق عبر الفيس بوك