بين تدفق المعلومات وغزو الشائعات تغيب الحقائق

أمل الجهوريَّة

لم تكن تلك العبارة التي قالها ونستون تشيرشل رئيس الوزراء البريطاني الشهير "إن الحقيقةَ تستلزمُ أحياناً حرساً من الأكاذيبِ" إلا تأكيداً جازماً على وجود الإشاعة وارتباطها الوثيق بالمعلومات التي تتدفق علينا بشكل هائل يفوق حاجتنا إليها، أو حجم استيعابنا لها؛ الأمر الذي يجعل عملية تسلل الإشاعة بينها واردًا، لا سيما إذا كانت المصادر الناقلة لتلك المعلومات لا صلة لها بالمصداقية، وتأتي لتحقيق أهدافٍ مخطط لها تقف خلف تلك المعلومات الواردة والمغلفة بالحقيقة في عالم متصلِ بالإنترنت، متفاعل مع وسائل الإعلام الجديد وثورة المعلومات الهائلة التي لم تكتفِ بوجود حرسٍ للمعلومة فحسب، بل جنَّدَت أغلب مستخدميها للقيام بدور حرس الشرف الذي يؤدي التحية لأي معلومة من غير تدقيق أو فحص؛ سواء كان ذلك بقصد أو بحسن نية منهم في التعامل مع تلك الوسائل، خاصة إذا كانت من قبل بعض الحسابات التي تتخذ لها شهرة بكثرة متابعيها، أو تضع لها شعارات بانتمائها لمؤسسات مشهورة لتضفي على نفسها صبغة المصداقية؛ فيقع المتلقي للخبر في شباكها. إن ثورة المعلومات التي نعيشها اليوم تمثل إحدى أهم الثورات التي عرفها التاريخ البشري، إذ أصبحت المعلومات وطرق تداولها وحفظها واسترجاعها، وآليات انتقالها تتم بطرق متطورة وتسهل وصولها إلى الأغلبية، إلا أنها ليست المعلومة التي نطلبها والتي نريد من خلالها تأكيد حقيقة أو بناء فكرة؛ كونها لا تخرج من مصدر واحد موثوق ومحدد، بل تتاح عبر مساحة فضائية عائمة تتيح لأي شخص تناقلها والإضافة إليها أو تغيير مضمونها، وإعادة نشرها بما يحقق له غايته منها؛ الأمر الذي يلزمنا أحياناً بتقبلها، وفي أغلب الأحيان رفضها.

... إنَّ تعاملنا مع الإعلام الجديد اليوم أصبح واقعا لا مناص منه، شئنا أم أبينا، وإن كانت هذه الأدوات في السابق قوبلت بالرفض كمصدر إخباري، وبقيت فقط مجرد قنوات اتصال تعبيرية لأفراد محدودين، إلا أنها اليوم باتت تفرض نفسها على أرض الواقع بشكل يجعلنا نحاول تكييفها لا رفضها، والتعامل معها لا إقصاءها؛ لا سيما وأن الاعلام الجديد يوفر الفرصة للحصول على أخبار قد لا نتمكن من الحصول عليها من خلال المصادر التقليدية.

وفي ظلِّ هذا الكم الهائل من المعلومات والأخبار المتناقلة عبر منصات الإعلام الجديد تتسلل "الإشاعة"؛ لتجد أرضاً خصبة للنمو بحثاً عن من يقتنع بها ويروجها لها بتفضيل أو إعادة نشر على صفحته لا سيما أولئك الذين يمتلكون عدداً كبيراً من المتابعين ويمثلون معلناً مستهدفاً من قبل المروجين للشائعات، ويبقى الخيار له هل يتقبلها؟ أم يرفضها؟ لتصل إليه من شخص آخر وقع في فخ تلك الإشاعات، وهكذا يستمر مسلسل نشر الشائعات الذي يبقينا في حيرة إمَّا القبول أو الرفض، وأحياناً يدفعنا للبحث عن مصداقية المعلومة للتأكد منها لا سيما إذا كانت تحمل في مضمونها جانباً يلامس اهتمامنا فنتمنى أحياناً أن تكون حقيقة لنفرح بها.

ومن أجل كل هذا كانت مائدة مؤتمر عُمان للإشاعة والإعلام الذي شهدنا فعالياته خلال اليومين الماضيين مليئة بالكثير من الأطروحات الهادفة والمناقشات الثرية من خلال جملة من المختصين في الإعلام والمتداولين للمعلومة، الناقلين للخبر عبر منصاته المختلفة بصلة مباشرة؛ الأمر الذي جعلنا نعايش خطورة الأمر عن قرب من خلال تجارب واضحة مر بها الأفراد، أو تعرضت لها المؤسسات، وعرفنا من خلالهم أن الأمر وصل بالإشاعة إلى استهداف أمن الكثير من الدول وتهديد استقرارها، وإضعاف اقتصادها، والتأثير على العلاقات الاجتماعية في كيانها الداخلي على الرغم من وجود القوانين الرادعة والعقوبات الصريحة لمروجي الإشاعات، وقبل كل ذلك وجود التوجيه الرباني بالتثبت من صحة الخبر، وعدم الانجراف خلف الأنباء الخاطئة. إنَّ الأمر أصبح في مضمونه وأبعاده أكبرمن خبرٍ يتم تناقله، أو معلومة تتعرض للتأويل أو التحريف لتأخذ طريقاً آخر بعيداً عن مسارها الحقيقي، مما يجعلنا نتوقف ملياً أمام ما يردنا من معلومات عبر الشاشات الإلكترونية العديدة: الفيس بوك، وتويتر، أو عبر " الوتساب " الأكثر ترويجاً والأوسع استخداماً في مجتمعاتنا ونتعامل معها بحذر شديد خوفاً من الوقوع في شباك الإشاعات التي تدس لنا كالسم عبر تلك الوسائل، وفي سياق الحديث عن الموضوع يستحضرني هنا تعبير استخدمه الرئيس الأمريكي باراك أوباما في كتابه "جرأة الأمل" عندما سُئل عن تجربته كسيناتور لأول مرة في الكونجرس، قال: "كنتُ كمن يريد أن يشرب الماء من خرطوم سيارة المطافئ"، وأعتقد أننا الآن أمام تدفق المعلومات بعد انتشار الإنترنت، ووسائل الاتصال الحديثة أصبح حالنا شبيهاً بمن يرغب في الحصول على الشيء ويخشى خطره في الوقت ذاته، حيث إن المعلومات التي نتلقاها خلال الدقيقة الواحدة من منافذ تقنية مختلفة تفوق طاقتنا الذهنية على استيعابها، أو التمييز بينها من حيث الأهمية وكذلك الصحة، مما يجعل كثيراً من الحقائق تضيع منا وسط سيل الإشاعات التي تُدس خِلسة وسط تلك المعلومات، وهذا يعكس قدرة هذه التقنيات على التلاعب بالمعلومة والصورة؛ لتبدو كما لو أنها عين اليقين بما يخدم من يقف خلفها، هنا فقط تكمن المشكلة في ظل ضعف أدوات الفرز بين الحقيقة والضلال.

وأمام هذه الغزو الفكري الموجه "الشائعات" يقف الجميع بحثاً عن حلول مستعرضين كل الإمكانات المتاحة التي يمكن أن تصل لها قدرات الأفراد، وتجنيد الكثير من الطاقات لنقي أنفسنا ومجتمعنا خطرها؛ فجاءت توصيات مؤتمر عمان للإشاعة والإعلام بالدعوة لزيادة تدفق البيانات والمعلومات من أجهزة الدولة بشكل متسارع يتوافق مع التطور التقني الذي يقود وسائل الإعلام الرقمية، وبما يسهم في الحد من إثارة الإشاعات، وتوعية الجهات الحكومية بالمتغيرات الجديدة في التطورات التكنولوجية والاستفادة منها في تطوير الإعلام في الجهات المعنية، إضافة إلى الإسراع في إصدار قانون الإعلام وكذلك قانون المتحدث الرسمي لضبط الأداء الإعلامي وتقليل فرص إطلاق الإشاعات، والمضي قدماً في تنفيذ برامج توعوية من شأنها ترشيد المجتمع بمختلف فئاته وإشراكه في العمل على مواجهة الإشاعات وليس ترديدها. إننا في الحقيقة بحاجة إلى جوانب مهمة قبل الولوج في توصيات المؤتمر من خلال تعزيز الرقابة الذاتية، وتمييز المعلومة وحسن التعامل معها، وتحري المصداقية في التعامل مع وسائل الإعلام الجديد، كما أننا بحاجة إلى قانون منظم سواءً للتعامل مع المعلومات وتدوالها أسوة بكثير من الدول التي أوجدت هذا المشروع في بلدانها، أو بوجود قانون ينظم الإعلام الجديد وآلية انتقال المعلومة عبر وسائله بما يسهم في حماية المجتمع من تأثير تلك الشائعات والحد من تداولها، ويعزز من انسياب المعلومة وتناقلها بأمان؛ ليشرق وجه الحقيقة الأجمل.

Amal.shura@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك