السنة التي غاب فيها معاوية

عبدالله خميس

أتيحُ لنفسي حق التأمل في موضوع عودة معاوية الرواحي للبلاد، بعد سنة قضاها في سجون دولة الإمارات العربية المتحدة، لأن معاوية كان - قبل غيابه- قد تحول إلى شخصيّة عامة، بل إلى واحد من أكثر المؤثرين في تفكير الشباب. إنّه بطل للكثير من طلبة وطالبات الجامعات. هو الأنشط - بلا منازع- في وسائل التواصل الاجتماعي. هو الأكثر تهورا إنْ شئت. والآن وقد عاد هذا الشاب ذو الشعبية الكبيرة، ما المتوقع من قبل شخصية عامة كمعاوية أن يتصرف بعد عودته للوطن؟ هل سيعود إلى سابق عهده في نشر الموضوعات الساخنة على مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل سيسمح له أهله أن يعرّض نفسه للأذى مرة أخرى؟ هل سيترجل بطل الشباب عن صهوة وسائل التواصل الاجتماعي فيحبط مريديه الذين صلّوا لأجله طوال عام وأشعلوا الشموع لعودته؟ ولكن.. أكانت تلك بطولة مستحقة، أم مجرد ظاهرة ربما كان على هذا الشاب المتعدد الاهتمامات أن يعتبرها مرحلة عمرية عليها أن تنقضي؟ بل، ألم يكن كل ذلك ظاهرة مرضية لها علاجها الذي ظل معاوية الرواحي يرفض أن يتعاطاه؟

منذ أن عرفنا معاوية الرواحي، وحتى قبل أن نعلم أنه مريض بمرض يدعى "اكتئاب المزاج ثنائي القطب"، عرفناه شعلة من النشاط. متعدد الاهتمامات لدرجة التضارب أحيانا - كأنْ يعطي موعدًا لخمسة أشخاص في نفس الوقت في خمسة أماكن مختلفة، وفي نهاية المطاف يدخل معاوية في النوم - بسبب عبثية حياته- ولا يلتقي أحدًا! كنا نتقبل ذلك منه ونعتبره جزءا من شخصيته "المتنعشلة". لكن مع السنين تغير الأمر كثيرا. صار معاوية أكثر نشاطا لدرجة غير طبيعية بالمرة، وقد ترافق ذلك مع ازدهار الفيسبوك وتويتر وزيادة انغماس الناس في عالم وسائل التواصل الاجتماعي. أصبح معاوية غزير الإنتاج لدرجة لا يمكن فيها متابعة كل ما يكتبه ويصوره بالفيديو من موضوعات. فهناك منشورات للفيسبوك تصل من الطول أحيانا إلى درجة لا يستطيع الفيسبوك أن يرفعها، فيلجأ معاوية إلى مدونته لينشرها. وهناك مقاطع فيديو على اليوتيوب بالساعات في الأسبوع الواحد. وهناك قصائد على الواتساب، و سيل من التغريدات في تويتر. وهناك أكثر من حساب بالفيسبوك - لأن الخمسة آلاف صديق التي يتيحها الفيسبوك للفرد الواحد لم تكن كافية لمعاوية الرواحي! كان هناك شاب مفرط الحماس متعدد الاهتمامات يقود معارك على جبهات شتى: لمناصرة قاصة شابة استأسد عليها جيش من الظلاميين، أو للقيام بهجوم موجه ضد كاتبة هزيلة مستفزة تكتب ما تسميه "قصف جبهات"، أو لفضح خرافات رجل دين لم أكن شخصيا قد سمعت به قبل حملة معاوية الرواحي ضده. ما لم نكن نعرفه أن هذا التصاعد المحموم الحاد في نشاطات معاوية الرواحي كان نتيجة للمرض الذي يعاني منه. إنّه مرض غريب. وكما يحمل اسمه فهو مرض له قطبان. القطب الأول يمكن أن يُدخِل صاحبَه في نوبات اكتئاب حادة قد تصل إلى مراحل يؤذي فيها الشخص نفسه. وهذا كان يحصل لمعاوية. والقطب الثاني كان يمنح صاحبَه طاقة هائلة وحماسا خطيرا، وهنا كان معاوية يتألق. لم تكن جماهير معاوية المتنامية تعرف شيئًا عن كل هذا. إلى أن وقعت الفأس في الرأس بتدوينة نشرها معاوية لم ينقذه منها إلا تسامح السلطة وجهود والده، وقد كان من تلك الجهود أنْ نشر والده لأول مرة للعلن الحالة الصحية لمعاوية والشهادات الطبية التي تثبت حالته النفسية.

الأشهر الستة السابقة لاحتجاز معاوية الرواحي كانت أشهرًا من النشاط المحموم في حياة هذا الشاب. كان الأمر قد وصل إلى الفوضى العارمة. كانت هناك حرائق يشعلها باستمرار في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، ولمن عرفوه عن قرب كانت هناك أشياء مخيفة تجري في حياته الشخصية كردود فعل لمرض يرفض صاحبه أن يتناول أدويته. كانت تمر الأيام بلا نوم لدى معاوية، وفي ظروف كهذه يضطرب الدماغ ويفقد المرء السيطرة على الأمور. في مثل هذا التصاعد المرضي جاءت مسألة تهديد معاوية العلني عبر كافة وسائل التواصل الاجتماعي بقتل الكاتب الطبيب حسين العبري بزعم أنّ الكاتب قد أفشى أسراره الطبيّة. في هذه المرحلة بالذات كان معاوية لم يعد شخصا مأمونا، حتى بالنسبة لأصدقائه. لعله كان يقترب من الشيزوفرينيا، حيث يمكن لاكتئاب المزاج ثنائي القطب أن يتحول إلى شيزوفرينيا في الحالات المتطرفة للمرض. حسنا.. هنا حدثت مفارقة شديدة الأهمية. لقد ابتدأ معاوية الرواحي يدرك أنه مريض، وبدأ يذكّر الناس بمرضه وألا ينظروا إليه كبطل. كان ذلك على الأقل ما تقوله كلماته، لكنه كان على أرض الواقع ماضيا في التصرف كبطل. أما جماهيره المفتونة به فقد تجاهلت تحذيراته وبدأت تتجه أكثر فأكثر إلى الذوبان فيه والتماهي مع حالته. لقد ظهر لمعاوية مقلّدون في أسلوب كتاباته. وصار هناك جيل من كتاب الفيسبوك يتفاخر بالإعلان أنه مكتئب ويكتب منشورات مليئة بعبارات مكتئبة. لقد أضحت الحالة المرضية حالة مقدسة. صار الأمر مخيفا، فالمدون الذي يرتكب جريمة قانونية وهي التهديد بقتل أحدهم يصبح بطلا في عيون جماهير توقفتْ عن التفكير. جماهير من الشباب المنقاد تبحث فقط عن البطل لتتبعه، ولم تلتفت يوما لتحذيرات هذا البطل أنه لا يريد البطولة. لقد انتبه معاوية أنّ شعار "#الحياة_هجلو" الذي وضعه عنوانا لفلسفته في الحياة لم يكن إلا شعارا اكتئابيا؛ فالحياة عمل وأمل وليست مجرد تجزير للوقت. لكن جماهير معاوية المتحمسة بإفراط لم تصغِ مجددا لتصحيح المسار الذي أراد الكاتب الشاب أن يقود إليه. على مستوى شخصي لي، كنت قد توقفتُ عن متابعة معاوية الرواحي في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة قبل احتجازه في سجون الإمارات بنحو ثلاثة أشهر. تلك الفوضى النارية كانت مخيفة، ومزعجة. لم أتوقف عن اعتبار معاوية صديقا، وكنت قد زرته في شقته قبل السجن بأيام بسيطة، ورأيت - ما سأحتفظ بتفاصيله كصديق- ما يعبر عن المقدار الذي وصلت إليه حالة التشوش الصحي والمعيشي لدى معاوية. كنت أعرف -ببساطة- أن شيئا سيّئا سيقع. كان معاوية الذي يزداد بطولة في عيون الشباب، يدخل أكثر فأكثر إلى حالة من التشوش الذاتي. كان كل شيء متوقعا (إلا السجن بدولة الإمارات). أغلب التوقعات كانت بأن تحجر عائلة معاوية عليه لأنه كان قد أصبح مؤذيا لنفسه، أو أن يرتكب حماقة في منشورٍ ما يدخل بسببه سجون البلاد. كان معاوية قد وصل إلى مرحلة لابد أن يحدث معها شيء، فهو نفسه لم يكن قد أصبح يطيق نفسه. مرة يتحول لمعلم رياضيات وتصبح مهنة يجني منها المال. ومرة ينهك جسده ليتعلم إشارات موريس في يوم وليلة ويكتب بها منشورات في الفيسبوك. ومرة يتحول إلى جراح يشرح كل يوما قطة أو حيوانا صغيرا، وهو الشاب الذي يخاف بالأصل النظر إلى قطرة دم. لقد أخذ معاوية جسده إلى أقصى طاقة المرونة بحيث كان الجسد ينتظر لحظة الانهيار. وفي مغامرته الأخيرة كان قد تحول إلى صانع للشموع، وهي تقليعة مرضية تحولت بسببها نساء متزوجات إلى مراهقات بائسات مثيرات للشفقة. قبل سجن معاوية بيوم واحد كان معاوية بالونا لابد أن ينفجر، وكنا - أصدقاءه الذين نحبه، وليس مريدوه العميان- نسأل الله اللطف بالقدر وليس رد القدر.

الآن وقد عاد معاوية، ما الذي يمكن أن يحدث؟ هناك عائلة تخشى على ابنها، وقد تخشى عليه كثيرا لدرجة إبعاده عن العيون كافة. لن ينجح هذا مع شاب بالأساس هو مبدع حيوي و نشيط: مدون وقاص وشاعر ومتفاعل مع قضايا المجتمع. وهناك على الضفة الأخرى جماهير تنتظر قائدها الذي لا ترى سوى هالته، لكنها لا تعنيها آلامه وتمزقاته. ولكنّ هناك طريقا ثالثا، اسمه أخذ الدواء بانتظام.

في غياب معاوية الرواحي فقدنا بطلين شعبيين حقيقيين لم تصنعهما جماهيرٌ تقدم أبطالها كقرابين نيابة عنها، ولكن صنعهما حب الوطن والإخلاص له. فقدنا الراحلَين الكبيرين علي الزويدي وحمد الخروصي - رحمهما الله-. والآن يعود إلينا معاوية الرواحي، الشاب الذي كان يمكن أن يكتب خلال الفترة التي غيبه فيها السجن عدة مؤلفات بين الشعر والقصة والتدوين. لقد حُرِم معاوية الرواحي سنة كاملة من أن يشارك بآرائه في مجريات الحياة العامة في البلاد، والآن تعود إليه الفرصة - لو تعامل معها باتزان- لينسى الجماهير العريضة التي كادت أن تورده مورد التهلكة، ويصغي لصوت المبدع في داخله. صوت الشاعر المطبوع، والناشط الإعلامي الذي ساهم منذ تأسيسه لمدونته قبل نحو 8 سنوات في تنشيط الإعلام الإلكتروني في بلادنا والتأثير فيه. لن أزعم أنّ علي الزويدي وحمد الخروصي كانا بلا جماهير في حياتهما. لقد كان هناك جمهور هادئ، لم نره بوضوح إلا في جنازة كل منهما، حين انسابت الدموع الصادقة لفقدهما والدعاء للرب بالغفران لهما وبجنة الخلد. كان ذلك حبا صادقا. هذا جمهور لم يسع المرء إليه، ولم يعبأ به في حياته. كان يحصل كتراكمٍ طبيعي يتحقق بمقدار ما يكرس المرء نفسه للإخلاص لوطنه وقضاياه. أما العائد معاوية الرواحي، فعلي كصديق أن أقول أنه ليس بحاجة لهذا النوع من الجمهور الذي يحيط به، فهو بحاجة أكثر لصداقة الشعر والأدب والفن، وإلى تلك الفئة القليلة النبيلة من أصدقاء الواقع الذين يحبونه بصدق. أولئك الذين سيقولون لك يا معاوية: رجاء، لا تنس أخذ أدويتك، لأنك بصحتك الجيدة تستطيع أن تفعل أكثر وأفضل بكثير مما يفعله المرض بك و بنا.

تعليق عبر الفيس بوك