صنعة الشعر

ناصر مُحمَّد

التكلم في الشعر مثل التفكير في قواعد اللغة، تفلت بمجرد استحضار قواعدها إلى الذهن.. فالشعر هو تمرد على المحسوس والزمن باستخدام كلمات ذات طابع إيحائي تبحر بنا في محيط بلا ضفاف قريبة؛ فالضفاف هي الخط الفاصل بين الكلام العادي والكلام الشعري. ومن يستطيع الإبحار في هذا العالم الجمالي سوى من يقدر رشاقة الكلمات وموسيقاها الحية! ولهذا أستعين بالارجنتيني "خورخي لويس بورخيس" (1899-1985) في هذا المقال لكي يحدد بعض ملامح هذا الطائر الفينيقي الذي لا يدرك خفقان أجنحته الخالدة إلا ذوي الحواس القوية.

ألقى بورخيس ست محاضرات عن صنعة الشعر في جامعة هارفارد في خريف 1967م، وعلى الرغم من ضعف بصره إلا أن هذه المحاضرات تبرز بعض ملامح هذا العملاق اللاتيني مثل الذاكرة القوية وتمكنه من اللغات الحية الجديد منها والقديم، خاصة في استحضار الشعر وحتى ترجمتها، وتميزه كذلك بتواضعه الذي يرفعه قيمته أكثر أمام قرائه إذ يدرك -وهو الشاعر المتشكك- معضلة الغرور المتلبسة باليقين. وفوق كل هذه الصفات تجد بورخيس يتنقل في حقول الثقافة والتاريخ والأدب كمن يعرض منتجات الحضارة في متحف ولكن بطبيعتها الحية الخصبة.

لن أعرض في هذا المقال محاضرات بورخيس بترتيبها المدون في كتابه "صنعة الشعر" الصادر من دار المدى، لأن القارئ لهذه المحاضرات سيلاحظ التداخل الكبير بينها وعدم القدرة على الفصل في مواضيعها، فبورخيس لا يعرض قواعدا للشعر بل شكوكا محكومة بجمال اللحظة. لهذا فهو يعتبرالشعر لغزا وسيستمر هذا اللغز بلا حل في برجه بعيد المنال! فهو يشير كثيرا إلى أن الشعر لا يمكن تعريفه لطبيعته الحركية غير القابلة للتقعيد، ولكنه يستخدم الأمثلة من الأشعار الخالدة التي تبين تلك الحالة من سبك الكلمات المفارقة للكلام العادي، والتي تتأرجح بين الحياة والموت، بين الحلم والواقع، بين المادة والروح، فالشعر هو الحدث المستمر أو كما قال بورخيس على لسان أحدهم: الشعر فن يحدث.

لا يؤمن بورخيس أن على الكاتب إيجاد الكلمات المناسبة من المعجم للأشياء التي يرغب بقولها، فهو يرى أن المعجم يجمد الكلمات ويجعلها ميتة، بينما الشعر هو بحث عن حياة الكلمات التي يقول بورخيس أنها موجودة حتى في اشتقاقاتها مثل كلمة "رعد" باللغة الانجليزية، فهي في الأصل صوت إله الرعد الرهيب ولهذا تجد أن الكلمة تحمل تاريخا وازدواجية في المعنى. كما أن الشعر تكمن قوته في الاستعارات وروعتها في الجمع بين التوليفات المتضادة. فالاستعارة هي عملية نسج للكلمات لخلق معنى جديد، ويحاول بورخيس أن يحدد البنى الأساسية لهذه الاستعارات حيث بلغت اثنا عشر توليفة أساسية. منها تداخل الحلم والواقع مثل مقطوعة الشاعر الألماني "فالترفون دير فوجويلد": تراني حلمت حياتي، أم أن حياتي كانت حلما!. وأيضا تداخل الزمن مع الحياة مثل أبيات "مانريكي": حيواتنا هي الأنهار، التي تجري لتصب في البحر، الذي هو الموت. ويعطي بورخيس أيضا مثالا عن تداخل الموت مع النوم للشاعر "روبرت فروست" حين يقول: الغابات الجميلة، قاتمة وعميقة، ولكن علي وعود يجب إنجازها، وأميال لأقطعها قبل النوم، وأميال لأقطعها قبل النوم. والبيت الأخير المكرر تستبدل به الأميال بالأيام والنوم بالموت. وكذلك يذكر بورخيس نوعا متكررا في الاستعارات مثل التحديد العددي الذي يوقظ المخيلة فجأة بعد سباتها كعنوان: ألف ليلة وليلة، أو جملة انجليزية متداولة: سأحبك إلى الأبد ويوم.

ويتناول بورخيس موضوعا معتقدا وفكر الشاعر إحدى محاضراته، ويشير فيها إلى أن المعتقد يحدد سرمدية الشاعر ويجعله عالقا في زمن معين، فهو يعتبر مثلا القاص والشاعر الأميركي ادغار ألان بو خاصا لفئة الشباب لا يرتقي لفئة كبار السن، كما أن تاريخية الروايات مثلا كالروايات الفرنسية خاصة في القرن التاسع عشر تجعل أصحابها واعين لذواتهم ومحددين لزمنهم وهو ما يعتبره عائقا للانتقال من زمن إلى زمن. إلا أنه لا يمنع أن ينتمي الشاعر والأديب لواقع معين لأنه على حد قول بورخيس: نحن حديثون بفعل الواقع البسيط في أننا نعيش في الزمن الحاضر. لم يكتشف أحد بعد فن العيش في الماضي، وحتى المستقبليين لم يكتشفوا سر العيش في المستقبل. إننا حديثون، شئنا ذلك أم ابينا. ولهذا مهما حاول بعض الأدباء الحياة في الماضي مثل أن يعتبر فلوبير روايته "سالامبو" بأنها قرطاجية الزمن إلا أن رائحة القرن التاسع عشر تفوح منها. ويرى بورخيس إن روائيين مثل "فرانز كافكا" لهم زمن معين بالضرورة بسبب انغلاق الأفق في سمائهم وتكريس تدفق اللامعنى. لهذا فهو لا يعول على الرواية في البقاء مثل تعويله على الشعر الذي يملك مفاتيح الكشف والدهشة. ويتطرق بورخيس أيضا إلى قضية المعنى في الشعر الذي يكون في بعض الأحيان زائدا عن الحاجة أمام جمال الكلمات، فهو يقول بهذا الصدد: يروقني أن أورد بضعة أبيات منها، فإذا لم تفهموها، يمكنكم أن تجدوا العزاء لأنفسكم في التفكير بأنني أيضا لا أفهمها، وأنه ليس لها معنى. إنها تخلو من المعنى بصورة جميلة، بطريقة تبعث في النفس بهجة مطلقة، إنها لا ترمي إلى قول شيء. ويسرد بورخيس هذه الأبيات للشاعر البوليفي خايميس فرييري: أيتها الحمامة المهاجرة المتخيلة، يا من تشعلين آخر الغراميات، ياروخا من ضوء، من موسيقى، من أزهار، أيتها الحمامة المهاجرة المتخيلة.

وفي الترجمة، ينتقل بورخيس بين حالتين من الترجمة: الحرفية والشعرية. فالأولى مثلا يقل فيها تدخل المترجم الذي يراه صائبا في ترجمة بعض النصوص مثل النص المقدس كجملة "نشيد الإنشاد" بدلا من "أجمل الأغاني" لأن النص المقدس في أصله العبري ليس فيه جمل التفضيل. أما الجانب التدخلي أو الشعري في الترجمة فله أيضا فضائله إذا كان النص ذو طابع سكوني فيقوم المترجم بإحيائه مثل ترجمة نص للشاعر سان خوان دي لاكروث: في ليلة مظلمة، بلهفة غراميات ملتهبة، آه أيتها المغامرة السعيدة، خرجت دون ان أُرى، إذ كان مسكني ساكنا. في جملة "إذ كان مسكني ساكنا" به نوع من رداءة الترجمة الساكنة التي جُودت لاحقا من قبل المترجم والشاعر الأسكتلندي "روي كامبل" حين ترجمها: عندما كان البيت كله صامتا!

تعليق عبر الفيس بوك