أخدود الهمايل

حاتم الطائي

مضى أخدود الهمايل بعد أن رفد مخزوننا الجوفي بكميّات مقدّرة من المياه، وبعد أن خلّف أضرارًا، أو جرفت سيوله أرواح عدة أشخاص.. مضى تاركًا ذكريات ومواقف ستظل خالدة في أذهاننا..

وأود أن ابتدر هذه المواقف باستدعاء لموقف لا يخلو من مفارقة؛ حينما اتصل أحد الأصدقاء معاتباً على استخدام الجريدة لكلمة "أخدود" في وصف الحالة الجويّة؛ التي شهدتها السلطنة الأسبوع المنصرم، قائلا: "عهدنا من جريدتكم الاعتدال والبعد عن الإثارة، فلماذا التهويل والتخويف؟ وأردف متسائلا: من أين جئتم بمفردة أخدود.. فهي لم ترد سوى في القرآن الكريم!".

وعبثًا حاولت إقناعه بأنّ هذه المفردة ليست مختلقة من قبل الجريدة، بل هي مصطلح مُستخدم من المديرية العامة للأرصاد الجوية، وهي وصف لحالة جويّة أعمق من المُنخفض الجوي، وتتسبب في أمطار غزيرة مصحوبة برياح وبرق ورعد.

إذًا، هل التهويل من الأرصاد؟

نقول: قطعًا لا، فقد جاءت بيانات الأرصاد الجويّة هادئة ورزينة، وبكل منهجيّة علمية، وذلك اتساقًا مع طبيعة العماني الذي لا يجنح للمبالغة، وينفر من التهويل ويميل إلى وصف الواقع كما هو.

والجميع يشهد على مهنيّة الأرصاد، وحرصها الشديد على نشر المعلومة الصحيحة، والبعد عن الإثارة التي تبث الذعر في نفوس المتلقين.

أمّا قرار وزارة التربية والتعليم بتعطيل المدارس يومي الأربعاء والخميس الماضيين، ورغم أنّه لم يسلم من سهام بعض المنتقدين، إلا أنني أرى أنّه كان عين الصواب؛ وذلك لعدة اعتبارات في مقدمتها أنّه جاء من باب التحوّط للحفاظ على فلذات الأكباد، ولقد ثبتت صحة القرار بعد أن عايشنا جميعًا غزارة الأمطار صبيحة هذين اليومين في مختلف المحافظات المتأثرة بأخدود المنخفض، والتي يتّسم العديد منها بوجود أودية تغلق الطرقات وتجعل في عبورها مخاطر شديدة، ولقد رأينا المصير الذي آل إليه من حاول عبور هذه الأودية أثناء هطول الأمطار، فمنهم من لقى حتفه، وآخرون اُحتجزوا داخل الأودية، حدث ذلك على الرغم من التحذيرات المتكررة من مغبّة المجازفة بعبورها، الأمر الذي أودى بحياة 8 أشخاص؛ ولقد نجحت شرطة عمان السلطانيّة في إنقاذ العديد من المحتجزين في عمليات اتّسمت بالبطولة والإقدام وفي ظروف قاهرة وصعبة، وبعض هذه العمليات الإنقاذية انتشرت مقاطعها على شبكات التواصل الاجتماعي لتخلد لحظات من الشجاعة والاستبسال..

ومن المواقف التي ستظل مخلدة في وجدان من عايشوا الحالة الجويّة الناجمة عن أخدود الهمايل، المنظر الفريد لتلك السحابة المعروفة علمياً بمصطلح "سوبر سيل" التي غطت السماء مساء الثلاثاء الماضي، في ظاهرة لم نشهد لها مثيلا في البلاد؛ وما صاحبها من مطر غزير وبروق أضاءت الليل وأحالته إلى نهار..

ورغم غزارة أمطار أخدود المنخفض الجوي، والتي غمرت مياهها الشوارع، وصعّبت الحركة المرورية في العديد منها، إلا أنّه سرعان ما تمّ احتواء آثارها في وقت قصير نسبياً بفضل تضافر الجهود بين مختلف الجهات ذات العلاقة، لتعود الانسيابية المرورية إلى الشوارع..

وكعادة المجتمع العماني في مثل هذه الأوقات، برزت نماذج مضيئة للعمل التطوعي في مختلف المناطق المتأثرة بالحالة الجويّة، حيث قامت الفرق التطوعيّة بدور ملحوظ للمساهمة مع الجهات المختصة في إزالة مخلفات الأمطار وتنظيم حملات تنظيف لما حملته الأودية من مخلفات مختلفة إضافة إلى التعاون في عمليات الإنقاذ والإسعاف والجهود التوعوية بصورة تؤكد على تجذّر مفهوم العمل التطوعي في نفوس أبناء عمان، الأمر الذي يبرز الحاجة إلى تطوير مؤسسات المجتمع المدني لتكون رديفاً للحكومة، وداعماً مهماً للجهود الرسميّة وخاصة في وقت الطوارئ والأزمات..

ومن هنا نزجي تحيّة إكبار لكل من ساهم في الحد من الآثار السلبية لأخدود الهمايل، ونشد على أيديهم مقدرين وفي مقدمتهم الشرطة والقوات المسلحة والبلديات والفرق التطوعيّة والأفراد، وتحيّة خاصة للإعلام على دوره البارز في إيصال الرسالة التوعويّة بكل مهنيّة وصدق..

ومع تلاشي تأثيرات أخدود الهمايل، عاش النّاس خلال اليومين الماضيين فصلا آخر من ملحمة الاستمتاع بالأمطار التي تشيع في النفوس فرحًا واستبشارا لدى الجميع، فبعد رحيل الأخدود وجد الكثيرون الطقس ملائمًا لقضاء وقت في أحضان الطبيعة بين الأودية، وعند السدود في أجواء احتفاليّة بهيجة تقاسمها الجميع..

نستطيع القول إنّ تكرار الحالات الجوية والأنواء المناخية، أوجد حالة متقدمة من الوعي للتعامل معها بشكل أفضل يحد من الخسائر، ويعظم الفوائد خاصة أنّ معظم هذه الحالات الجوية ترتبط بالأمطار، والتي تعد الرافد الأهم لمخزوننا المائي الذي يعتبر الثروة الأغلى لنا وللأجيال القادمة.