بين أروقة الميلينيوم

سُلطان الخروصي

التعليمُ هو أحد المكوِّنات الرئيسية في منظومة بناء دولة المؤسسات العصرية؛ فهو سرُّ نجاح فلندا والفلبين واليابان وكوريا الجنوبية، واللائي أصبحن شموسا بازغة في رابعة المجد والمدنية؛ فالمعادلة بسيطة جدًّا تقوم على استثمار التعليم؛ حيث إنَّ الاستغلالَ الأمثل للكوادر التعليمية هو بمثابة المصل الناجع للنهوض من غيبوبة الفوضى الاجتماعية، والركود الاقتصادي، والتصحر الثقافي، إلى الصحوة والنظام البشري السوي، والانتعاش في اقتصاد المعرفة، وغزارة الإنتاج العلمي وجودة العمل الحكومي أو الخاص.

وفي تفاصيل المعادلة المؤسساتية للدولة القائمة على اللفتة الحقيقية نحو ثورة التعليم، فلابد من قراءة أحد الأضلع الرئيسية بهذه المنظومة عبر أوسع أبوابها وهو "المعلم"؛ إذ تنبَّهت كثير من دول العالم لهذا المكون الرئيس في "مملكة" التعليم من خلال حشرهِ في زاوية مُفعمة بالرضا الوظيفي، والاستقرار النفسي، والأمان الاجتماعي؛ والذي بدوره انعكس في جوده أدائه، وابتكاره لطرق تدريسية حديثة، وتوظيفه للتكنولوجيا بمختلف صنوف المعرفة التي يقدمها لأبناء الأمة، بعيدا عن التحسر، وعدم الرضا، واللامبالاة، والرهبة من المجتمع، والشعور بالنقص، والاستصغار.

يُشكِّل التعليم في عُمان أحد المشاريع الإستراتيجية التي ترفد الدولة في سبيل تطويره وتجديده وتجويده أمولا طائلة، كان آخرها حسب بيان وزارة المالية للعام 2016م بمقدار 2.5 مليار ريال عماني، بينما بلغت في العام المنصرم 2015م 3 مليارات ريال عماني، وقد سعت مؤسسات التعليم قدر استطاعتها نحو تنمية الحسّ المعرفي والمهاري للكوادر التدريسية والإدارية بما يخدم الحقل التربوي؛ والأهم من ذلك هو قدرتها إلى حد كبير -وبتعاون مع المثقفين ومؤسسات الإعلام المختلفة- على تحسين صورة المعلم وإرجاع هيبته التي استُصغرت بين غمضة عين وانتباهتها بسبب متغيرات تسارعت وتيرتها على الساحة العمانية والعربية، ويبدو أن سعي مديريات التربية والتعليم بمختلف المحافظات بدا جليا في سبيل بناء جسر حقيقي بين المعلم والمجتمع بعدما اتسعت الفجوة إثر اعتصامات المعلمين المطالبة بالإصلاح التعليمي والتربوي وما شاب الأمر من الصيد في الماء العكر لدى المراهقين الذين لا يحبون لهذا البلد وأهله الخير بل يبغون الفساد والسوء والبوار.

وحتى لا يُجرُّ المقال إلى لوثة التطبيل والتملق؛ فلابد من نقل الحدث كما هو، مع الأخذ بعين الاعتبار "من لا يشكر الناس لا يشكر الله"، فقبل الرابع والعشرين من فبراير المنصرم بأسبوع كان هناك حِراكٌ حثيث لدى كثير من مديريات المحافظات التعليمية وإدارات المدارس لجعل هذا اليوم في أجمل حُلته وبهائه، يقدموا فيه للمعلم عربونَ وفاء جزاءَ عطائه المتدفق في كل ربوع عُمان الطاهرة، وقبل ذلك اليوم المنتظر شدني كثيرا لهف المجتمع من الآباء والأمهات وجموع غفيرة من الطالبات والطلاب وإدارات المدارس -ذكورا وإناثا- لاقتناء أجمل باقة ورد تتخللها أرقى عبارات الشكر والعرفان، كنت أحتسي شرفة من شاي ساخن حضره لي السيد (كومار) وبالقرب مني محل ورود غص بالزبائن، باقة تخرج تلو الأخرى بأشكال مختلفة وبأسعار ليست بالزهيدة، إذا هناك حِراكٌ مجتمعي يرى أن المعلم يستحق هذا الإكرام والتبجيل بعدما كان ذات يوم على الهامش ومجرد "كومبارس" في صناعة القرارات المجتمعية، ويبدو لي أنَّ هذا إنجاز كبير بعدما شاب تلك العلاقة الكثير من المنغصات، ووصلت إلى درجة بينونة الطلاق.

وفي الزاوية الأخرى وبالتحديد بتعليمية جنوب الباطنة، زُفَّت الورود لكل معلم ومعلمة في جميع مدارس المحافظة، بل كان المشهد الذي امتزج بين أروقة المحبة والجمال حينما يمَّمت جموع المعلمين والمعلمات إلى "منتجع الميلينيوم" وعلى ضفاف البحر باحتفالية بهيجة أشعرت الجميع بكيانه ومدى قيمته في عيون المسؤولين بالتعليم بعدما كانت هناك صورة نمطية مقيتة رسمها المتسلقون على رقاب انتقاد التعليم للانتقاد السلبي فحسب، فكان الاحتفال يحمل عنوانا بسيطا لكنه عميق "شكرا معلمي"، تخللته فقرات إبداعية من الشعر والخواطر والفنون الشعبية والابتكارات وغيرها الكثير، كما أنَّ هذا اللقاء الميمون كان تحت رعاية شخصية ذات مستوى رسمي رفيع بالدولة؛ وفي ذلك رسالة موجزة تختصر المسافات بأن المعلم مكانه في رفيع المقام.

وعلى هامش احتفال تعليمية جنوب الباطنة، آثرتُ أن أطعم ما تقدَّم ببعض الآراء التي حمَّلتني مسؤولية الإفصاح عمَّا يدور في خلجاتها وهي من الميدان التربوي بالمحافظة، فسعيد المخزومي يقول: "تدرج المعلم العماني في استخدام وتطويع التكنولوجيا في العملية التعليمية والتربوية، بحيث أصبح الآن يستخدم أفضل الوسائل التعليمية الحديثة الموجودة والمعروفة وكل الإمكانيات المتاحة؛ لوجود بيئة مناسبة للتنفيذ، كما أن وجود جيل واع ومُطَّلع على ما يدور حوله من أحداث جارية ساهم بشكل كبير على تشجيع المعلم لاستخدمها والبحث عما هو جديد في هذا الجانب"، ويضيف مهدي البوسعيدي قائلاً: "ليس هناك صعوبة أن نضع أيادينا بيد المعلم وأن نكون شركاء معه، نتعاون معه كأسرة ومجتمع؛ لتحقيق ما نأمله لأبنائنا من منطلق المسؤولية والشعور بعظم أهمية رسالة التعليم، فحين يتفوق أبناؤنا، فإنَّ ذلك انعكاس بينٌ لتفاني المعلم وجهده اللامحدود في سبيل إيجاد جيل واعٍ قادر على تولي دفة هذا الوطن في المستقبل القريب"، وترى هدى الدايري: "أن المنظومة التعليمية لأي دولة ما هي إلا تفاعل وترابط متين بين عدة قوى متمثلة في: المعلم والطالب وولي الأمر والوزارة، فمتى ما نجحت عملية التفاعل هذه صلح التعليم، ولنا نماذج عديدة ففلندا وکوريا الجنوبية نماذج يُحتذي بها في تبيان تأثير هذه العملية"، ويضيف محمد المحاربي: "أصبح المعلم العماني يمتلك رصيداً ملحوظاً وواضحاً في ظل الاهتمام الواسع الذي توليه وزارة التربية والتعليم متمثلة في المديريات العامة للتربية والتعليم؛ وذلك من خلال الدورات التدريبية، وأوراق العمل التي تعقد من أجل تطوير الأداء الوظيفي للمعلمين".

فلابد أن تتضافر الجهود الرسمية والمجتمعية نحو بناء البيت التربوي العماني السليم، فمن كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجر؛ إذ لا يمكن أن يُطالب المجتمع بإصلاحات تعليمية على مستوى القدرات التدريسية أو المناهج أو القرارات المؤسساتية المختصة بالتعليم ما لم يضع كفه بكف هذه المؤسسات لصناعة القرار، كما أن َّهذا الحِراك الحميد والملموس في تقدير ذات المعلم ودوره الحقيقي في المجتمع ومنظومة التعليم والاحتفاء بما يليق بمقامه المشهود يقدم جرعات تصحيحية وتطويرية للمعلم، وليس ما قامت به مديرية جنوب الباطنة ببعيد عن ذلك، فشكرا ثم شكرا أيها المعلم على ما تقدمه من عطاءات عظيمة، وشكرا لك أيها المجتمع لما تقدمه من نماذج إيجابية تجعل المعلم في المربع الصحيح، وشكرا مديرية تعليم جنوب الباطنة بجميع طاقمها على هكذا مبادرات راقية ورائعة، وهذا ليس بجديد على تعدد إنجازاتكم المتواترة.

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك