هيكل.. بين الصحافة والسياسة

راشد حمد الجنيبي

هيكل.. موجَّه الرؤساء ومنجّمهم السياسي، برز نجمه في عهد ملوك مصر قبل رؤسائها، و ما زاد نجمه سطوعا هي مصر، كونها بيئة خصبة للأحداث السياسية وقلب نابض للسياسة العربية، وأي حدث فيها يؤثر على المنطقة كَكُل، مساره المهني بدأ إبّان الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ مشواره الإعلامي في 1942 في صحيفة إنجبشن غازيت كصحفي متدرّب، محمد حسنين هيكل وُلِد في عهد الملك فؤاد وعاصر آخر ملوك مصر الملك فاروق، وذاع صيته في عهد خليله الرئيس جمال عبد الناصر، صار مستشاره السياسي وعزف حينها على وتر السياسة المصرية، كانت من أجمل أيامه التي خلت، فبعد تمرُّد العسكر على الملكية المصرية في ثورة 23 يوليو عام 1952 قفزت نوعية نجاح هيكل من إعلامي صحفي إلى رجل دولة ويداً من حديد لجمال عبد الناصر. في عهد الناصرية صار رئيساً لتحرير جريدة الأهرام، وبسط قوته فيها، أمّا في عهد السادات لسببٍ أو لآخر تدهورت علاقة هيكل مع المنظومة الرئاسية في مصر، حيث نُقل من الأهرام ورفض هو مهمة الاستشارة السياسية، وبعدها بسنين في سبتمبر 1981 اضطربت الخاصية الاستراتيجية التي كان يمتلكها وهي علاقته مع الرئاسة، حيث اعتُقِل ضمن حملة شملت كُتَّابا وناشطين سياسيين، حاول مبارك بعدها الاستفادة من خبرته الواسعة لكن لم تتقارب الآراء بينهما، خصوصاً جهود هيكل ضد توجه مبارك بالذات في مسألة توريث الرئاسة لابنه، بعد الثورة المصرية طالب هيكل بحوار مفتوح لجميع الأطياف السياسية واتُهم من قبل مؤيدي الرئيس محمد مرسي بحملة انتقادات بزعم أنّه يحاول تحريض قوى الإعلام والعسكر ضد الحكم آنذاك، بعد أن تغيرت قواعد اللعبة في 30 يونيو 2013 تغزّل بالسيسي وأعلَنَ إعجابه به، وكذلك أصابتهُ مجدداً الانتقادات اللاذعة على ذلك.

في الفترات العصيبة التي افتقد فيها شيئاً من علاقته مع الرئاسة "كالذي حدث في عهد السادات" غرّدَ هيكل خارج السرب، من خارج مصر مارس لعبته وسياسته، السادات عزل هيكل بأمر رئاسي من الأهرام وعينه مستشاراً له، لكنّه اعتذر عن هذا التكليف، حتى وَصَل به الحال إلى سحب جوازه والتحقيق معه بتهمة محاولاته الإساءة بمصر وعلى ذلك اعتقل وأفرج عنه في نفس العام في 6 أكتوبر 1981، والمتأمِّل في حياة هيكل يجد أنه بعد عهد جمال استحب ممارسة نشاطه عما هو خارج ملعبه "مصر" بل ومن خارجها غرَّد، ففي سياسات المنطقة في الخمسينيات ترك مصر شهراً مسافراً لإيران ومؤلفاً كتابه الأوّل "إيران فوق البركان"، وبعدها ألّفَ كُتُباً لعهد عبد الناصر كفلسفة الثورة وغيرها مثل "يا صاحب الجلالة" و أيضاً " ما الذي جرى في سوريا"، لكن في مطلع الثمانينيات تغيّرت النبرة فألّفَ كتاب "السلام المستحيل والديمقراطية الغائبة"!! و في عهد مبارك سُمِعَ تغريده بين كتبه العديدة التي ألّفها على المنبر الحساس الذي عادةً ما يوتِّرُ توجه مصر وهو منبر الجزيرة في "مع هيكل".

هيكل سياسيٌّ حكيم ومراوغٌ داهية، طبّق نظرية أنّ الإعلام أقوى القوى، مهنة الصحافة فتحت له أبواب القوى وحتى أبواب السُلطة، لكنه اكتفى بميدانه، وبه أصبح رجل دولة، فقوة الإعلام عرضت له عدة حقائب وزارية ورفضها حتى في الفترات الحساسة كزمن الجمهورية الاتحادية حتى انفصال سوريا عن مصر في 1961، إلى أن عينه عبدالناصر جبراً وزيراً للإرشاد في مطلع السبعين محتجاً أن تلك الفترة كانت حساسة امتازت بحرب استنزاف على إسرائيل، واستلم معها حقيبة وزارة الخارجيّة لفترة وجيزة.

بين الصحيفة والوزارة كان يلعب بمنابع القوى بفطنته، بل سلَكَ بذلك في الشأنين الثقافي والسياسي، فصحيحٌ أنّ الشأن السياسي قوي لكن الشأن الثقافي زمنه أطول وبدائله أكثر، رحل محمد حسنين هيكل الأربعاء 17 من فبراير 2016 عن عمر يناهز 93..

هيكل بين نفوذ القوى هو الذي بقي وظلّ قوياً، و كان مرواغاً فطنا أمام من يكون نداً له، ظلّ لآخر عهده بوصلةً للسياسة المصرية وظلّ الرؤساء يجتمعون حوله للتنظير السياسي.

Rashidhj1139@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك