حظّك ما عندك هموم!

ليلى البلوشية

قرأت أن الروائي الياباني كينزا بورو أوي كرس حياته لابنه المعاق ذهنياً، هذا المصاب الجللّ، هذه المعاناة الموجعة حوّلته إلى كاتب وحوّل ابنه إلى بطل في رواياته، إلى شخصية شهيرة نال بفعلها جائزة نوبل في الآداب، تجربة ألمه الحقيقية جعلت إحساساته عالية تجاه محسوسات الكون؛ لدرجة إدراكه العذاب الصامت الذي تعاني منه سمكة في الخطاف، لقد أصبح كاتبا لينقل للآخرين هذا الشعور الدقيق، إنها الكتابة التي تأتي بصدق و وجع حين تصاحبها معاناة حقيقية.

وخلال قراءاتي المتنوعة للتجارب الكتابية لمعظم كتاب الصين الذين تفتقت معاناتهم في عهد الزعيم الذي وقعوا ضحاياه ماو تسي تونغ إبان الثورة الثقافية الصينية التطهيرية التي سعت إلى تخدير شعب و توهيمه و إخضاعه لتجارب حياتية قاسية، لقد خلّد الصينيون الحكّاؤون تلك المرحلة الموجعة من تاريخهم في روايات وقصص وسيّر أليمة وشمت ذاكرتهم!

ولو ألقينا نظرة على تجارب معظم الكتّاب في العالم سنلاحظ أن أولى خطواتهم نحو أقدارهم الإبداعية بدأت حين انبثقت في حياتهم الشخصية معاناة توازي كثافة الإبداع.

من واقع تجربتي الشخصية ترك أبي -رحمه الله- حين موته فراغاً شاسعاً و حزناً لا يشبه أي حزن تشعر به فتاة حين يموت والدها. هناك أحزان تأتي مرة واحدة، أحزان لا تتكرر، أحزان لا تشبه سوى نفسها، ووجعها لا يشبه الأوجاع الأخرى، حين يجف النبع الذي تفرعنا منه، حين تموت روح الشجرة الكبيرة تموت أوراقها أيضا، و لا شيء مطلقا يعود كما كان برحيل أحدهما أو برحيلهما معا!

لأنني لا أميل إلى الشكوى، وليس من طبعي الندّب، و لعلها المرة الأولى التي افتح فيها عطباً من جروحي أمام الملأ، أشرعه اليوم أمامكم و سأخجل أمام نفسي بعد أيام لأنني فعلت ذلك، ربما لحزني كبرياء، ربما لأنني أتعاطى مع أوجاعي بحميمية خاصة، و ربما لأنه طبعٌ طفولي نما معي و صار جزءاً مني و من شخصيتي.

بدأ وعيي بحزني أكثر بل ميلي إلى الكتمان عن أوجاعي مهما بدت كبيرة، صغيرة، ساذجة، تافهة، منطقية، حقيقية، وهمية. حين فاجأتني صديقة مقرّبة في المدرسة ذات يوم بعد أن ظلت لساعات طويلة تشكي لي بؤس حالها وكانت قد اعتادت على ذلك و كنت أنا المُنصِتة -المغلوب على أمرها- كما في كل مرة كنت أحاول مدّها بالصبر مع ابتسامات أطبعها على وجهي كنوع من المشاطرة الإيجابية لرفع معنوياتها لكن عبارتها: "حظّك ما عندك هموم"! كهربتّني لحظة وقعها عليّ!

في ذلك النهار تحديداً، في الصباح اليوم نفسه دون أن تعلم صديقتي أو أيّ كائن كان كنت قد خرجت من البيت حزينة، حملت حقيبتي المدرسية ووضعتها على كتفي، دسست أحزاني في قلبي وغادرت. كان يوماً كئيباً، مررنا وقتها بظرف عائلتي صعب لا داعي لذكره اليوم، لقد مضى كما مضت أوجاع كثيرة وهموم متعددة، لكن ما لفت نظري حقاً في نهار ذلك اليوم وبعد عبارة صديقتي المقربة هي قدرتي الخارقة على إخفاء أوجاعي دون أن أسعى لذلك، دون أن أدّعي ذلك. لقد اندهشت حقاً، لم أكن أعلم أن وجهي أيضا يتقن دوره، لقد اعتادت تقاطيعي على الابتسام حتى في أشد اللحظات بؤساً حتى أنني اذكر جيداً عبارة ابنة أختي الصغيرة منذ أعوام حين قالت لي مرة: "ارتاح حين انظر إلى وجهك، تشعرني ابتسامك أن العالم بخير و آمن".

ذلك اليوم كان درساً كبيراً لي؛ أدركت منذ يومها أنني أتعاطى مع أحزاني بحميمية. أركنها في زاوية غير مرئية من روحي. لا تفسير لدي و لماذا أفعل ذلك لا أعلم حقا؟

ربما لكل ذلك جاءت الكتابة إليّ، كانت الجدار و كنت المسمار، ووحدها من ضمّت هذا المسمار و احتوته، في عام وفاة أبي -رحمه الله- لم أفعل شيئاًّ سوى الكتابة، و بعد أن مضى العام الثقيل وجدتني أمام 360 صفحة و خاطبتني مذهولة: يا إلهي، ماذا سأفعل بكل هذه الصفحات؟

لم يكن ببالي مطلقاً مشروع كتاب، كنت أريد أن أشفى من حزني، كنت أريد أن أنسى، كنت أريد أن أتواصل مع من أحب بطريقة ما و كانت الكتابة هي الطريقة الوحيدة المتاحة أمامي.

كتاب "رسائل حب مفترضة بين هنري ميللر و أناييس نن" كتبته بحزن، كتبته لأبي، كانت روحه تحوم حولي و أنا أكتب كل سطر من سطوره، لقد دعمني حتى وهو غائب.

الكاتب و السارد أو الحكّاء مهما كانت التسمية لا يحتاج إلى الشكوى و الندب و النحيب، و لا أن يهوّل أحزاناً، و لا أن يخترع معاناة وهمية؛ لأن المعاناة الحقيقية تجد طريقها، تبتكر وسيلة بوحها بنفسها، الضغوط النفسية تفعل بنا ما لا ندركه، ما لا نتوقعه!

يقال بأن الكاتب الأمريكي "بول أوستر" تحوّل من الشعر إلى السرد بسبب صدمة موت الأب؛ إنها المعاناة الحقيقية التي وجدت لنفسها سبيلاً.

Ghima333@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك