التعلم البنائي.. النظرية والتطبيق

حميد السَّعيدي

"اقرأ" أوَّل آية قرآنية نزلتْ على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتحثه على القراءة، هذا النهج الرباني أتى لاحقا بمجموعة من الآيات القرآنية التي تدعو الإنسان للتعلم والتأمل في خلق الله، ويقول الله عزوجل في كتابه العزيز: "قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ" (يونس: 101)، وفي سورة آل عمران: "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ" (190)، وجاءت مكانة العلماء عند الله في قوله قال الله تعالى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" سورة فاطر، هذا النهج الرباني لو رجعنا وتأملنا معانيه وتفسيراته لوجدنا أنها تركز على منهجية التعلم التي تعتمد على التفكير العلمي في خلق الله بالأرض والكون الواسع، والتأمل فيما يحدث أمامه من ظواهر ومشكلات ومواقف محيرة تحتاج للدراسة والبحث فيها، واليوم العالم الحديث يعتمد على ذلك النهج في عملية التعلم، ولكن من خلال مجموعة من النظريات التربوية التي يُؤمنون بها، وأثبتت مقدرتها على تحقيق الرؤى ومواكبة العصر الحديث، في حين أننا نحن من نمتلك الوثيقة القرآنية التي من خلالها نستطيع أن نطبق أفضل الأنظمة التعليمية الحديثة، ولكن أنظمتنا التعليمية ما زالت تركز على التعلم السطحي، والابتعاد عن التعلم العميق الذي يركز على القدرات العقلية العليا، وعلى أنماط التفكير المتنوعة؛ هو الأمر الذي دفعني للمشاركة مع نخبة من الباحثين الأكاديميين لدراسة الواقع العُماني التعليمي ومدى توافقه مع النظرة الحديث في التركيز على مهارات التفكير من خلال إجراء مجموعة من الدراسات البحثية، والتي نُشرت في عدد من المجلات العلمية المحكمة؛ حيث أثبتت هذه الدراسات أنَّ هناك تأخرًا كبيرًا في ضعف توظيف مهارات التفكير البنائية في المواقف الصفية.

حيث إنَّ هناك تغييرًا كبيرًا تمثل في الانتقال من النظرة التقليدية تجاه المتعلم والتي ترى أنه عبارة عن وعاء بحاجة للمعلومات، إلى رؤية تربوية حديثة تؤكد على أن المتعلم قادر على التعلم بالاستعانة بقدراته العقلية في عملية التعلم؛ فهو يمتلك الإمكانيات التي تؤهله للقيام بدوره الأساسي في التعلم، والبحث عن المعرفة، ومعالجة المشكلات، واقتراح الحلول، والابتكار والإبداع بطرق عملية ومنهجية، ولكنه بحاجة إلى التأسيس الحقيقي لعملية التعلم، ومنحه الثقة في مقدرته على تحقيق نتائج التعلم الحديث، ولتحقيق ذلك فإنهم بحاجة إلى ذلك المعلم الذي يستطيع أن يمنحهم الطريق الذي يؤهلهم لامتلاك مهارات التفكير العقلية العليا، والخبرات المهارية التي تساعدهم على الابتكار والإبداع، ويغرس فيهم الروح الوطنية، ومهارات القرن الحادي والعشرين مما يتيح لهم المجال للبحث والتفكير فيما يجري حولهم بعقول مفكرة لا تقليدية تستند إلى منهجية الحفظ.

فكان لظهور النظرية البنائية في الربع الأخير من القرن العشرين الباب الذي فتح أمام العالم منهجية جديدة تواكب متطلبات العصر الحديث وتتوافق مع أفكار الكثير من العلماء والمفكرين والمبدعين، أمثال أفلاطون وسقراط الذين نادوا منذ القرون الأولى بالتفكير؛ حيث اتفقت تلك الرؤى مع فلسفة النظرية البنائية التي تركز على الاعتماد على قدرات المتعلم في بناء المعرفة؛ حيث إنَّها ترى العقل هو العنصر الرئيسي في بناء المعرفة وتكوينها لدى المتعلم، وإن عملية التعلم قائمة على جهده ونشاطه في وصول المعرفة إلى عقله، فهي تجعل منه العنصر الرئيسي في العملية التعليمية التعلمية؛ مما دفعني للتعمُّق في هذه النظرية ودراستها من خلال قراءة كل ما يتعلق بالأبحاث والدراسات العلمية أثبتت جميعها مدى صحة هذه النظرية وقدرتها على بناء متعلمين يواكبون العصر الحديث؛ فكان ثمرة ذلك تأليف كتاب "التعلم البنائي النظرية والتطبيق" ويسعى هذا الكتاب إلى الغور في النظرية، والتعرف على مبادئها ومضامينها، وتقديمها للقارئ بصورة مبسطة يستطيع الاستفادة من أفكارها في التطبيقات المتعلقة بالعمل التربوي، بكل ما يتضمنه هذا العمل من عناصر تشكل المنظومة التعليمية، حيث يضم هذا الكتاب سبعة فصول تم إعدادها بطريقة تعرض فكر البنائية وتطبيقاتها في التعلم البنائي، وتعطي المعلم أمثلة واقعية استخلصت من خبرات دولية متخصصة في مجال التدريب على أنماط التعلم البنائي، إلى جانب مشاركة نخبة من المعلمين العُمانيين الاكفأء والذي أضفوا إبداعاتهم من خلال مجموعة من التطبيقات التربوية التي طبقت على الواقع التربوي وأثبتت نحاجها، فكانت ثمرة ذلك مشاركتهم في توفير أمثلة واقعية من البيئة العُمانية، بحيث تضمنت كل ما يتعلق بالموقف الصفي، وكيفية توظيف التعلم البنائي وفقا لرؤية وفلسفة النظرية.

واليوم.. تشارك الأقلام الوطنية المفكِّرة في إثراء المكتبة العُمانية بالعديد من الرؤى والنظريات الحديثة، فإنها تبقى بحاجة إلى القراءة والاستفادة من خبراتها في تطوير عملية التعلم بما يتوافق مع الأهداف الوطنية والغايات السامية، والتي من خلالها نسعى إلى بناء الإنسان العُماني بحيث يصبح عنصراً مؤثراً على مستوى العالم يستطيع أن يصبح أحد أدوات التغيير والابتكار؛ فهو يمتلك كل الإمكانيات التي بحاجة إلى الاكتشاف والاستغلال بصورة إيجابية.

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك