البرازيل: ثمان سنوات لمقاومة الإفلاس

د. سيف بن ناصر المعمري

عرفت البرازيل مذ كنت صغيراً حيث كنت من مشجعي المنتخب البرازيلي، أعرف أسماء لاعبيه من أمثال بيليه، وزيكو وسقراط وغيرهم الذين ساهموا في الارتقاء بكرة القدم وجعلوا منها لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية تُعزف بالأرجل على البساط الأخضر، ولا أزال أذكر الصراع المستمر بيني وأحد أخواني الذي كان من مشجعي المنتخب الأرجنتيني عندما يلتقي الفريقان، يومها كنت وكثيرون لا نعرف عن هذه الدولة إلا تفوقها في كرة القدم، ومشاهد الأحياء الفقيرة التي يبثها التلفزيون في تقاريره عن هؤلاء اللاعبين الذين أبهروا العالم بأدائهم، فترسخ في الذهن أنّها بلد فقير، وترسخ هذا المعتقد بداخلي لاحقاً حين بدأت اهتم بالتربية وفلاسفتها ومن بينهم البرازيلي"باولو فيريري" مؤلف كتاب "تعليم المقهورين"، وهو ما أكده مواطنه "باولو كويلو" الذي ركز في بعض رواياته على الفئات المهمشة في المجتمع البرازيلي وقدم صوراً إنسانية مؤثرة عن حالة البؤس التي تعيشها، ولّد ذلك بداخلي علامات استفهام كبيرة عن الوضع الاقتصادي لهذه الدولة التي تعتبر أكبر دولة في أمريكا اللاتينية حيث تشكل (47%) من مساحة هذه القارة، وهي خامس أكبر دولة في العالم، هل تنميتها متعثرة غير قادرة على بناء مجتمع منتج قادر على منافسة اقتصاديات الدول الغربية المتقدمة التي تمكنت من التفوق عليها لعقود طويلة في كرة القدم؟

تذكر الباحثة أمل مختار أنّ البرازيل في التسعينيات وصلت إلى أزمة اقتصادية حقيقية كانت مظاهرها مخيفة جدًا تمثلت في ارتفاع الدين الخارجي من (150 إلى 250 مليار دولار)، وبالتالي تزعزعت الثقة بالاقتصاد البرازيلي ليس فقط من قبل المستثمرين المحليين بل أيضاً من قبل المستثمرين الأجانب وبالذات الجهات الدولية المانحة، وزاد من تفاقم الوضع النتائج السلبية التي ترتبت على الحلول المؤقتة التي تمثلت في طرح السندات الحكومية التي صرفت المستثمرين عن الاستثمار المنتج إلى شراء السندات مما رفع الدين الداخلي إلى نسبة (900%)، ومن أجل تجنب شبح الإفلاس الذي بات يطل بقوة على البلاد، حاول الرئيس "كاردوسو" باستماتة في عام (2002) الحصول على قرض من البنك الدولي الذي وافق بشرط أن يتم ذلك بعد الانتخابات التي لم ينجح فيها الرئيس حيث غادر مخلفاً بلداً منهارًا اقتصاديًا، ويحتاج ربما إلى جيل أو اثنين لتبدأ النفوس اليائسة في استعادة الأمل الذي صادره الفقر والديون وعصابات المخدرات، ولذا قرر البرازيليون وهم يذهبون إلى النوم أن يحلموا بأيّ شيء إلا أن تتخلص بلدهم من أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، حتى أنّ أحد الكتاب يقول لو أنّ "المتجول في شوارع برازيليا أو ريودي جانيرو في ذلك العام سأل النّاس عن مستقبل بلدهم لأجابوه بثقة وإجماع "ألا مستقبل لها"، وكأن اللاعبين السياسيين أصبحوا عاجزين عن أن يمتلكوا مهارة لاعبي كرة القدم في تسجيل على الأقل هدف واحد يبث الفرح في نفوس أكثر من (205) ملايين برازيلي.

لكن يبدو أنّ إحراز هدف اقتصادي كان يحتاج إلى كل هذا التأزم، الذي إما أن يقود إلى الكارثة التي ينتظرها الجميع مستسلمين، أو أن يقود إلى بناء روح المقاومة والخلاص من هذا الواقع، ولم يدرك البرازيليون أنّ انتخابهم "لولا ديسلفا" سيقودهم خلال ثمان سنوات، إلى إقراض البنك الدولي بدلاً من الاقتراض منه، وإلى شراء سندات حكومية برتغالية بعدما كانوا هم يصدرون سندات للحصول على أموال، ما الذي حدث خلال تلك السنوات؟ لماذا خصّ الله سبحانه وتعالى البرازيل بمعجزة النهوض الاقتصادي بدلاً من أن يخص بها بلد عربي مسلم؟ إنّ الأسئلة التي يمكن أن تطرح كثيرة سيما وأن كثيرين لا يزالون لا يؤمنون بأنّ التنمية لها أسباب يجب الأخذ بها، وأنّه لا مستحيل حيث توجد الإرادة، وأنّه لا فشل حيث يوجد الإخلاص، نعم البرازيل تختلف كثيراً عن هذه البلدان في مساحتها، وعدد سُكانها الكبير، وتنوع مناخها، وثرواتها الطبيعية، ونظام الحكم، إلا أنّها تفوقها سوءاً في حجم ديونها، ونسبة الفقر، وعدد من هم خارج المدرسة، وفي سطوة رجال المافيا، وبالتالي فإنّ شرط التنمية لو قيس بهذا المعيار فإنّ إمكانية التنمية تصبح أكبر لدى دول الخليج منها لدى البرازيل، فلماذا نجحت البرازيل في أن تتحول إلى اقتصاد قوي متنوع يُعد الاقتصاد السادس على مستوى العالم في حين لم تنجح دول الخليج في تحقيق ذلك رغم أنّ كفة الميزان لصالحها؟

إنّ الإجابة يمكن اختصارها في توافر أربعة مقومات هي الإرادة والإخلاص والرؤية والتفهم، أما العمل الذي تمّ فكان مضنياً ولا يمكن اختصاره، فعندما وصلت الدولة إلى النقطة الحرجة التي لم يعد فيها أحد قابل لتقديم المساعدة حتى صندوق النقد الدولي، كان لابد من التغيير الشامل من أجل بقاء البرازيل حتى لا يتسول سكانها لقمة عيشهم من خارج الحدود، فالإرادة تمثلت في انتخاب الرئيس "لولا" الذي خبر الاقتصاد والنقابات وكيفية التعامل معها، والرؤية تمثلت في وضع خطة واضحة لها عناصرها، والإخلاص تمثل في تنفيذ الرؤية بدقة، أما التفهم فتمثل في تقبل الإجراءات الصارمة التي تبنتها الحكومة من قبل جميع المواطنين ورجال الأعمال، حيث تولدت ثقة لدى الجميع بأنّ هناك إخلاص وجدية في معالجة الوضع الاقتصادي، كان لا مفر من سياسة التقشف لكنه كان تقشفاً من أجل البناء لا تقشفاً من أجل توفير فوائض من قطاعات وفئات لتهدر من قبل قطاعات وفئات أخرى.

والنتيجة كما تؤكدها الأرقام التي ضمنتها الباحثة أمل مختار في دراستها الموسومة بـ "تجربة النمو الاقتصادي في البرازيل" هي ليست خفض عجز الموازنة بل كانت أبعد من ذلك حيث ارتفع التصنيف الائتماني، وبالتالي استقطبت البلد استثمارات بقيمة (200) مليار دولار خلال سبع سنوات، وعاد إليها مليونا مُهاجر كانوا يعلمون ويستثمرون بالخارج، وجذبت (1.5) مليون أجنبي للإقامة والاستثمار الموجه، وأصبح صندوق النقد الدولي مدين للبرازيل بـ (14) مليار دولار بعد أن كانت هي مدينة له، وتم تشجيع المستثمرين الصغار عن طريق خفض سعر الفائدة من (13.25%) إلى (8.75%) وبالتالي تمّ تقليص أعداد البطالة، ورفع معدل الإنتاجية، وزيادة الدخل الفردي، حيث تمكن (23) مليون برازيلي من الانتقال من الطبقة الفقيرة إلى الطبقة الوسطى، وبالتالي الحد من مشكلة الفقر، وكان العمل على تنشيط الصناعة وحولت شركة صناعة الطائرات "إمبراير" خسائرها المتتالية في السابق إلى أرباح نتيجة الضبط والرؤية، وكان قطاع السياحة متأخرًا جداً رغم مقومات البرازيل الطبيعية المذهلة، فانتشل من واقع حيث وظفت الهوية البرازيلية وما تحتويه من موسيقى وفلكلور إلى عوامل جذب سياحي تمّ من خلالها استقطاب أكثر من خمسة ملايين سائح سنوياً، وقاد هذا الخروج من دائرة الضعف الاقتصادي إلى تقوية السياسة الخارجية البرازيلية التي أصبح لها مواقف مستقلة غير متأثرة بحاجتها للآخرين، واتضح جزء من هذه المواقف في برنامج إيران النووي الذي عارضت فيه البرازيل موقف الدول الغربية وعلى وجه الخصوص موقف الولايات المتحدة الأمريكية.

لم يهب الله سبحانه وتعالى البرازيل النبي يوسف عليه السلام ليكون على خزائنها، ولكن وهبها "الألم وذل الفقر والدين" وهي دولة كبيرة ذات تاريخ عريق، فكان ذلك كافياً لإحداث قطيعة مع اللامبالاة والمقامرة بالمستقبل، كان ذلك كافياً ليجعلهم يأخذون واقعهم المرير بجدية، فقدموا درساً لبقية الشعوب أن التنمية ممكنة ولها شروط لا يمكن تحقيق أي شيء دون الأخذ بها، وأنه لا يمكن تغيير أيّ واقع إلا بالاعتماد على الذات، لأنّ النظر إلى الخارج على أنّه المخلص من خلال القروض التي يُقدمها له عواقب لا تحمد عقباها، وكما قال الرئيس "لولا" الذي حرّك هذا النهوض الاقتصادي "لا يُمكن حل مشكلات 500 سنة في ثمانية أعوام"، لكن لابد من البدء ..ومشوار الألف ميل يحتاج إلى خطوة جادة، وكل سنة تمضي بدون عمل جاد تؤدي إلى تقليص الفجوة بدلاً من توسيعها.

تعليق عبر الفيس بوك