العالم لا يبدأ أو ينتهي بنا

رحاب أبو هوشر

نعاني أزمة في العلاقة مع العالم، في الانفتاح عليه والتفاعل معه، وقبول اختلافه وتنوّعه، وفي الإيمان بأننا جزء منه، وأنّ ثقافتنا مجرد واحدة من ثقافاته وحسب، وأنّ معتقداتنا الدينية تندرج في لوحة من معتقدات عديدة، تزخر بها الأرض منذ قرون، والاعتراف بأن العالم لا يبدأ أو ينتهي بحدود وجودنا وثقافتنا وقيمنا. وإن كنا عانينا طويلا من صورة نمطية عن العربي والمسلم، صنعها مستشرقون غربيون لأهداف استعمارية أواخر القرن التاسع عشر، فحالنا اليوم لا يبذل فيه جهد كما يبذل في تأكيد وتكريس تلك الصورة، ولم تعد كاذبة إلا بقدر إنكار انغلاقنا ورفضنا للآخر.

أزمتنا لم تبدأ هناك في الخارج، فتجلياتها يومية في المجتمع، وتصدر عن ذات جمعية مأزومة بانغلاقها، وأفكار مشوهة مسبقة عن الآخر، وفكرة محنطة عن تفوق، منحت كل فئة نفسها إعفاء من الالتزام بمنظومة القيم الإنسانية تجاه الآخر، وجعلتها حقا حصريا لها. مثل أي شخص يعيش وحدته المعتمة، يتضخم إحساسه بذاته، حتى يظن أنه محور العالم، وأن بإمكانه تطويعه لأفكاره وتوقعاته.

الآخر، هذا الذي لا يشبهنا، ليس منا. وبما أنه لا ينتمي لـ "قبيلتنا" الدينية والطائفية والمناطقية، ولثقافتنا الأخلاقية، يمكننا أن نجرده من القيم الأخلاقية، وأن نتنكر لإنسانيته، ونستبيح حقوقه إذا أتيحت فرصة ما. نحن نتفوق عليه بالضرورة، ما يعني امتلاكنا حق الاستخفاف به بضمير مطمئن!

آلاف النساء العربيات، يجري خداعهن من قبل رجال عرب، يتسللون من بلدانهم، لقضاء وقت يسمونه "زواجا" معهن، ثم يتوارون، تاركين إياهن مع آلامهن، وأطفال لم يكترثوا بوجودهم. لا يجرؤون على مثل هذا السلوك مع فتيات من بلدانهم. الشخص نفسه سيرى هذا الفعل جريمة، وخروجا على القيم الأخلاقية، ولكن تلك الخاصة به وبمجتمعه، أما المرأة "الغريبة" فلا ترقى لقيم ذوي الدم النقي، إنها إنسانة ربما، ولكن من الدرجة الثانية!

وفي العلاقة مع المرأة الغربية، تزداد صورة العربي بؤسا، فعلاوة على كونه مدججا بموروث كبته الجنسي، تشغل ذهنه صورة نمطية عن امرأة متاحة للجميع، كيف لا، إنهم أجانب، ليسوا عربا وليسوا مسلمين! وفق ذلك، يبيح لنفسه التحرش بأي أجنبية، ويستهجن استنكارها ورفضها. وفي البلدان الأجنبية، صار العربي معروفا بأنه مستغل للنساء، يسعى للزواج بغرض الحصول على الإقامة والعمل، ويمارس أشكالا من التحايل والكذب، التي تكشف غالبا، لتؤكد صورة العربي الكذاب، الذي يحتقر المرأة ولا يحترم القانون.

وبينما يعاني اللاجئون السوريون محنة لجوئهم وسوء ظروفهم في أوروبا، وجهت تهم إلى رجال في حالة سكر، من أصل "عربي أو شمال إفريقي" بالتحرش بعشرات النساء الألمانيات، باحتفالات رأس السنة الفائت، وهناك حالات اغتصاب كما قالت الشرطة الألمانية، مما أحدث صدمة لدى الألمان، لوقوع هذا النوع من الحوادث الجديدة كما تذكر التقارير. ولا نعلم مقدار صدقية ما تم تداوله حول هوية المتهمين، ولكن من المؤكد أنه سيترك انعكاسات سلبية على اللاجئين، فقد سارعت قوى سياسية يمينية، لاستثماره ضد اللاجئين والمهاجرين العرب.

كان الورم الثقافي يشطر قبائل وعشائر، مدنا وقرى، ثم جاء الخطاب الأصولي/ الطائفي، ليشطر المجتمع شطرين، ويشطر بذات الذهنية علاقتنا بالعالم، فنحن المسلمون المؤمنون، وأصحاب العقائد الأخرى كفار، سواء كانوا شركاء لنا في الوطن أو غيرهم من شعوب العالم. وأوكل الخطاب لأتباعه، في ذروة الاستقطاب الطائفي، مهمة "اسلمة" المجتمع والعالم، عبر تكفير الآخرين. سطوة الخطاب الأصولي، وتغذيته المستمرة إعلاميا، عززت حالة الانغلاق مع تضخم شديد بالذات، بما يولده ذلك من شحن وعداء.

معظم المسلمين أصبحوا يتعاملون بفوقية مع المختلف عنهم، ويرون الاستهتار بإنسانيته والاستهزاء بثقافته ومعتقده واجبا إيمانيا. إذا مس أحد مقدساتنا، أو حقوقنا الدينية في الغرب خصوصا، نقيم الدنيا ولا نقعدها، ونتواطأ صمتا إذا اعتدى مسلم على معبد أو كنيسة.

وفي الخارج يقاوم العرب والمسلمون الاندماج بثقافة وقيم المجتمع الجديد، رغم أنهم ذهبوا هروبا من أزمات مجتمعاتهم، إلى حيث يمتلكون شروطا أفضل للحياة، إضافة إلى اللاجئين ممن فروا من جحيم الحروب. ورغم أنهم يتمتعون نسبيا هناك، بحقوق إنسانية تصون كرامتهم، كانت ستبقى حلما لو ظلوا في بلدانهم، بما فيها احترام حرياتهم الدينية وخصوصياتهم، فإنّهم لا يكفون عن الشكوى والغضب من اختلاف المجتمع، وكأن العالم مطالب بأن يحمل لونا واحدا، هو لوننا فقط، يؤمن كله بما نؤمن فقط، ويعيش بأسلوبنا، وتكون له ثقافتنا.

ما يمكن ملاحظته دون أدنى جهد أن أزمة الإنسان العربي والمسلم مع ذاته ومع العالم في تفاقم، وأن تكلسه الفكري الطويل، يحد من إدراكه لبديهيات من قبيل أن العالم متنوع، وأنه ليس متفوقا إلا في كهوف ذهنيته الأحادية، وأنّه مفلس لا يملك إلا وهم تشكيل العالم على هوى ذعره.

تعليق عبر الفيس بوك