مشروع التيار المدني البحريني: البحث عن هوية

عبيدلي العبيدلي

قد يبدو عنوان المقال استفزازياً بعض الشيء. لكن التمعن فيه، بهدوء وروية، وبعيدا عن أي انفعال سريع، لا بد وأن يقود إلى النتيجة ذاتها، ومفادها أن التيار الوطني في البحرين يبحث عن هوية، ومن الخطأ الوقوع في شرك المكابرة، وذلك للأسباب التالية:

1. أن هذا البحث عن الهوية ليس مشكلة التيار المدني في البحرين وحده، فكافة التيارات السياسية العربية المنظمة (بفتح الظاء) هي الأخرى تعاني من المشكلة ذاتها، بل ربما تمتد هذه الحالة لتتجاوز التنظيمات السياسية كي تصل إلى الأفراد في المجتمعات العربية. وهذه الحالة في جوهرها حالة صحية تعبر عن قلق مشروع يعيشه كل من يحاول أن يخرج من شرنقة الماضي الضيقة إلى رحاب الإبداع اللامتناهي. وللمزيد من التوضيح بوسعنا القول إنّ فترة العمل السياسي في الستينات من القرن الماضي، على صعوبات العمل السري الذي كان مفروضا عليها، لكنها كانت، على مستوى الانتماء الفكري، أكثر قدرة على حسم أمورها، فالخيارات أمامها كانت شبه متوفرة. حينها كانت ساحة الصراع، أو التنافس، تعج بالأفكار القومية والماركسية. وبغض النظر عن مدى ملاءمة أي منها، لكنها في نهاية الأمر تجعل الخيارات متاحة. اختلف الأمر اليوم، في ظل تهاوي الفكر الماركسي في المنطقة، وتراجع المد القومي المصاحب له. لقد وجه انهيار الاتحاد السوفياتي، وفشل تجارب أنظمة حكم الأحزاب القومية، ضربة موجعة للقوى السياسية التي كانت تجد في كليهما ملجأ فكرياً يحدد هويتها، ويقود مسيرتها في العمل اليومي، في علاقاتها الداخلية من جانب، وعلاقاتها مع جماهيرها الواسعة من جانب آخر.

2. سطوة قيم المجتمع الريعي، بفضل الثروة النفطية التي راكمت سيولة نقدية في فترة قصيرة نسبياً، على نحو غير مسبوق في تاريخ تطور المجتمعات البشرية، أدت إلى صدمة فكرية مفاجئة، هي الأخرى غير مسبوقة، أربكت مسيرة التيار المدني ليس في منطقة الخليج، فحسب، بل على المستوى العربي أيضًا، بفضل تسرب تلك الصدمة، إلى الأقطار العربية المجاورة، والقوى السياسية التي تنشط فيها. والمقصود بتلك الصدمة، ذلك الاحتكاك المُباشر السريع مع مكونات الحضارة الغربية التي راكمت قيمها، وأقدمت على خياراتها الفكرية، وفق تطور زمني لم تنعم به المجتمعات الخليجية بطابعها الريعي، وانعكس ذلك على القوى السياسية، وأربك حركتها، وأدى في نهاية المطاف إلى تمزيق هويتها التي وجدت نفسها مطالبة بالبحث عنها، من منطلقات أصيلة، بعيدة عن الاستنساخ غير المبدع.

3. تهشيم منظمات المجتمع المدني، وتسييسها، الأمر الذي قاد إلى حرمان التيار المدني من أهم القنوات التي تحتاجها عملية "تمدين" المجتمع بالمعنى السياسي لهذا التمدين. وربما آن الأوان كي يعاد إلى هذه المنظمات شبه المشلولة اليوم، بعض مما تحتاج إليه، علها تساهم في مساعدة التيار المدني وهو في خضم البحث عن الهوية المدنية التي يفتقد الكثير من مقوماتها.

4. بروز التيار الإسلامي السياسي على ساحة العمل السياسي في البحرين، وهي مسألة مُعقدة، وبحاجة إلى الكثير من الدراسة، سواء كي تأتي القراءة متأنية وغير منفعلة، أو لضمان نتائج راسخة بعيدة عن ترسبات الماضي، وعقد الخلافات الثانوية، التي أدت في معظمها إلى تشظٍ عميق في بنية العمل السياسي المدني في البحرين. فالوصول إلى هوية قادرة على الصمود في وجه عواصف العمل السياسي في البحرين، وفي القلب منه التيار المدني، تحتاج إلى فهم صحيح، ليس لأسباب بروز تيارات الإسلام السياسي على الساحة، بل لجذور العقيدة الإسلامية المتأصلة في سلوك أبناء هذه المنطقة. وهنا ينبغي التحذير من الوقوع مرة أخرى في القراءة المُسطحة للفكر السياسي الإسلامي، تماماً كما كانت عليه الحالة عند فهمنا للفكر القومي، والفكر الماركسي على حدٍ سواء.

5. سقوط نظام الشاه في إيران، وبروز الإسلام السياسي تحت عباءته المذهبية التي أدت إلى شطر المجتمعات العربية عمودياً، بما فيها تلك غير الخليجية، ومعها القوى السياسية التي تنشط فيها إلى فريقين متناحرين. هذا الانشطار لم تتوقف حدوده عند قوى الإسلام السياسي بفرعيه السُني والشيعي، بل تجاوزت ذلك كي تصل إلى العمود الفقري للقوى السياسية التي تنتمي إلى التيار المدني، التي وجدت نفسها، وبشكل غير إرادي منخرطة في ذلك الصراع، ومجبرة على أن تكون جزءًا منه. أسوأ ما في الأمر هنا هو ذلك التغليف الواعي، وربما غير الواعي، لتلك الحوارات المكثفة والمتصاعدة في حدتها، كي تكتسب حلة فكرية غير "متدينة"، في حين كانت هي في حقيقتها غارقة في "مصيدة" الخلفية الدينية. لذلك وجدت فرق التيار المدني، ذات الأصول الماركسية، أو القومية، نفسها تخوض حوارات داخلية منهكة شكلها الخارجي يبدو مدنياً متيناً، لكن جوهرها الداخلي كان طائفياً متآكلاً.

كل هذه العوامل قادت إلى تشويه صورة التيار المدني، وحرفه عن مساراته الطبيعية التي كان من المتوقع أن يسلكها. وجردته، بطبيعة الحال من الحالة المدنية التي كان يتجه نحوها، وعليه تبرز اليوم الحاجة لأن يقف التيار المدني أمام نفسه، وأمام جماهيره على نحو شفاف كي يُعالج هذا الواقع من جانب، ويحدد هويته السليمة من جانب آخر، وهذه عملية معقدة وصعبة، ومن الخطأ الوقوع ضحية أوهام توفر حلول سريعة لها. ولربما تكون نقطة البداية هي اعتراف التيار ذاته، وبالشجاعة التي تتطلبها مسؤولية تحديد الهوية بأنّه يعاني من ضياع هذه الهوية، على أن يترافق ذلك، دون الانزلاق نحو حالة سادية من جلد الذات، غير المبرر. ففي الاعتراف بالمرض تكمن الخطوة الأولى التي تضع أقدام قوى التيار على الطريق الصحيحة التي تضمن له الوصول السليم والراسخ إلى الهوية التي يبحث عنها، والتي لن يتلقاها مغلفة في صندوق ينتظره، بحاجة إلى من يفتحه.

 

تعليق عبر الفيس بوك