لا تُصَالِح..!

سلطان الخروصي

sultankamis@gmail.com

(الإنسانيّة) كلمة مطاطية تحمل بين جنباتها عسل المعنى وسم الواقع الذي يعيشه العالم؛ فأينعت حقائقها وأزهرت حينا لدى ثُلة من الأمم كما هو في عهد نبي الأمة الكريم، بينما شاخت وتشظت في حقب حضارية أخرى فبصقت في جبين الدهر مآس مفجعة عنوانها القتل والتشرذم والإبادة واللإنسانية كما هو حال مشهدنا العربي (المُخجِل)، وقد لا يختلف اثنان أنّ المرجع الأصيل للعيش البشري السوي يبنى على ثوابت قويمة ترتكز على مبدأ الحق في تقرير المصير، ومتبوعا بخطوط عريضة تُجنب الشعوب سرطانات الإحتقانات السياسية المتصلبة، أو النعرات الطائفية والعنصرية المقيتة، فلا يمكن أن ينازل المرء حقه مدفوعا بنوازع شخصية على أكتاف الآخرين.

رُبما - شاء القدر- أن تُدّون المنطقة العربية ملحمة جاهلية مؤلمة في تاريخ البشرية كما عاشتها أوروبا في القرون الوسطى، فبعد نفض غبار الثورات العربية - على قول - والفوضى العربية - على قول آخر- ضد الاستعمار الفكري والسيادي والعسكري والسياسي الذي ظل واجما على قلوب العباد حينا من الدهر، فتشهد الساحة صورة ضبابية لحراك شعبي كان باطنه الرحمة فما إن انجلت حتى بان ظاهرها العذاب، فهي ليست كثورات عرابي، أو ثورة الأحرار، أو أبناء المختار، أو سعد زغلول وغيرهم الذين ناضلوا لتحرير الوطن من أنجاس الأوباش الطامعين أو كما سماهم وزير الإعلام العراقي السابق محمد الصحاف في عهد الرئيس الراحل صدام حسين (بالعلوج)، لتظهر لنا فقاعات الربيع العربي التي قلبت واقعنا المتأزم في الأساس من سيئ إلى أسوأ، وكأن لسان الحال يقول "تمخّض الجملُ فولد لنا فأرا".

إنّ صيرورة الزمن تنتج بعد حين لأي استبداد ينهل من استحمار واسترقاق العباد منهجا، وينهش من لحم حفاوة العيش وطهارة الروح سياسة؛ لا تأتي عواقبه إلا خيبة ونكالا على المستبد، وتخلق جبهة مناضلة شريفة تنذر أجسادها وأرواحها قرباناً زكيّا للذود عن البلاد والعباد من دنس المغتصبين، فحين دخل الطليان إلى ليبيا واستبدوا واستباحوا أهلها وأرضها لم يشفع لهم الزمن لأكثر من قرن بأن يكسروا شوكة المقاومين الأحرار، فلقنوا المحتل درسا خالدا في ضروب النزال والنضال بلا نهاية ولا هوادة حتى استطاع أولئك الفتية تحرير بلادهم؛ لأنهم فتية آمنوا بحق العيش الرغيد وضرورة أن تكون مبادئ الإنسانية القويمة وأخلاقيات الدين السمحة هي المرجعية الأصيلة للتعاطي مع مجريات الأحداث في جبهات القتال وفي غرف المفاوضات السياسية والدبلوماسية.

قد لا يختلف اثنان أنّ اليأس الذي يشعر به المواطن العربي أمام المهزلة التي خلَّفها الفراغ السياسي مردها ازدواجيّة فاضحة في المفاهيم والمبادئ والمرجعيات السياسية والفكرية والدينية والانهيارات الاقتصادية على حد سواء؛ مما أوجد شريحة من الشباب الذين لم تتلقفهم المؤسسات - المعتدلة - فكرياً وسياسياً واجتماعياً لتنير عقولهم وتوسع مداركهم حول قراءة الواقع بمسؤولية وتبصر، وهنا كان لزاما على المؤسسات الرسمية أن تُجند من هم في مقام صناعة القرار بجدارة لبناء منظومة فكرية سليمة غير ملوثة بفتاوى الدرهم والدينار أو بخزعبلات فكرية (شرشبيلة) تشعرهم بالعزلة المجتمعية والتهميش وأنهم رقم في غير محله بأوطانهم؛ مما دفعهم إلى الانخراط في مستنقعات ضحلة قوامها تجار دين وسماسرة حروب ربحية تتسم بالشكل الصوري لخلافة الأمّة والوريث الحقيقي لرسالة النبي الكريم.

لو تتبعنا الخيوط الرفيعة لبروز هذا التنظيم بوجه خاص (داعش) وبعض الجماعات المسلحة الأخرى سنجد أن جلها يرجع للمربع الأول في التأسيس الفكري والسلوكي لهؤلاء الفتية من خلال العقم الكبير الذي يجتاح مناهجنا التعليمية في أغلب أقطار الوطن العربي؛ فكيف يمكن بناء جيل طوال عقد من الزمان يعتمد على الكم المعرفي (الهزيل) دون الاكتراث إلى نوعية ذلك البناء؟! فحينا لا تستطيع مناهجنا أن تُغلغل في قلوب الطلبة وعقولهم ماهية الوطن وقدسيته ووجوب الدفاع عنه ضد أي مُغتصب أو حاسد أو متربص فأنّا لهذا التعليم أن يُحصِّن القلوب والعقول من سفك دماء أبناء الوطن الواحد؟ وحينما لا تستطيع مناهجنا التعليمية أن تغرس في سجايا المواطن سماحة الدين وجماله الذي اجتاح العالم ليُدخل البشرية في دين الله أفواجاً وشعاره "جئنا لنُخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد"، فأنّا لهذه المناهج أن تخلق جيلا واعيا متوقدا بالحنكة والحكمة والمعرفة لإدراك عالمه المحيط؟ ثم كيف يمكن لمناهج هزيلة مفرغة أن تواجه تيارات فكرية وأيديولوجية شرسة تستقطب هؤلاء الشبيبة نحو مسالخ الموت بمسميات هلامية تتلون (بماركة) الشهادة والجهاد فيزجون بهم كالقطيع إلى مرادم الموت؟!

"داعش" .. هي حديث الساعة الآن والشغل الشاغل للعالم، ومن خلاله انتعشت الرأسمالية بالإقبال المهول على شراء الأسلحة بشيكات موقعة على بياض، وهناك تحالفات دولية لا تزال في الأفران تطبخ على نار هادئة يعوّل عليها القضاء على القواعد العسكرية لهذا التنظيم (داعش)، وتجفيف منابعه المالية المهولة دون أن ننسى أن فاتورة كل ذلك هي من جيوب العرب وليس من جيوب (الأصدقاء)!، والمتتبع لجذور هذا التنظيم يجده قد بدأ بمخاض عسير منذ العام 2003م حينما غُزي العراق ليصبح اليوم وحشاً كاسراً يجتاح الوطن العربي بلا مقاومة من جيوش العرب التي التهمت مليارات من الميزانيات الوطنية!، ليبقى السؤال الجوهري: حينما تنتهي أسراب طيران التحالفات العربية وغير العربية بإلقاء أطنان من البارود الحارق، وتُغطي سماء دمشق وبغداد وصنعاء بسحب ركامية قاتمة، فهل العرب مستعدون لتحمّل فاتورة ردة فعل هذه الجماعات على الصعيد الأمني والاقتصادي والاجتماعي والتنموي؟!

للإجابة عن السؤال المنصرم لابد أن نراجع إحداثيات المنهج الذي تسير عليه مؤسساتنا المختلفة والتي يراها هؤلاء الشباب بأنها مستبدة فكريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، لابد أن تعلن حكوماتنا العربية عن ثورات إعلاميّة وعلمية وتربوية، لابد أن تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بمدلولها الحقيقي لا الصوري، لابد أن تؤسس منظومة شراكة سياسية فاعلة بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، لابد من تحرير عقول الناس من سذاجة من يتاجرون بفتاوى ما يشتهيه المتشدقون فيُنزلون من البشر حجرا، لابد من احتضان هؤلاء الذين صُمت أذانهم بأبواق بعض رجالات النجاسة الذين يفاضلون مصالحهم الحزبية عن الوطن، لابد أن تُولي مؤسساتنا الرائدة ثقتها الحقيقية بأن هؤلاء الشباب هم حاضرها ومستقبلها، وأن تتنازل عن كبريائها الذي يعتبرهم كالقطعان؛ فالشباب حينما وجدوا أن مؤسسات وطنهم تعيش تصحرا كبيرا في تحقيق أدنى حقوقه كإنسان؛ التفتوا لمثل هذه العصابات فوجدوها تُغدق عليهم المال والزوجة والمسكن والمأكل وقلدتهم مناصب قيادية وتوعوية ودعوية غلغلت في نفوسهم الولاء لها ليكونوا بعد حين حطب نيران الموت.

نحن بحاجة ماسة إلى مراجعة مجريات الأحداث لنقرأ الواقع بحقيقته وجزئياته الدقيقة، وذلك يستدعي من الحكومات العربية أن تقدم تنازلات (مشروعة) لأبنائها في سبيل الحفاظ على النسيج الاجتماعي واللحمة الوطنية، فلسنا بحاجة إلى مجازر وحشية يقودها عُبّاد المال والدم وتجار الدِّين بينما يكون المواطن الذي خرج بائساً من وطنه فأر تجاربهم، كم يحدونا الأمل أن نعلن للعالم الراقي عن براءة اختراع عربية يشار لها بالبنان لكن لا أن نوصف بالخزي والعار بمثل هذه التنظيمات التي أبتكرها العرب بأنفسهم وقدموا لها المال الحرام والفكر المشوش والحاضنات النجسة، هذا التنظيم وغيره يستصرخ في جُنده جهارا نهارا (لا تصالح) ليعلن حرب إبادة للبشرية، ومن السليم أن تُصحَح المفاهيم والمعايير لتنوير هذه الثلة بدلا من حرقها وخلق مئات الدواعش ومن على شاكلتهم وتعود حليمة لعادتها القديمة!.

تعليق عبر الفيس بوك