جدلية الثقافة والتعليم في أرض العرب

علي محمد فخرو

إذا كانت الثقافة، كما يعرفها المرحوم الدكتور عبدالله عبدالدائم، هي تلك الوقدة الانفعالية التي تثيرالدهشة والتساؤل والفضول في الإنسان، وبالتالي تحتاجها المجتمعات من أجل أن تتصف بالحيوية والإبداع، ومن أجل أن تمارس المحاولة الدائمة للارتقاء بالسمو الإنساني في قيمه وأخلاقه وعلاقاته مع الآخرين والطبيعة، إذا كانت كذلك فإن مهمة انتقالها من جيل إلى جيل ومهمة تجديدها تصبح من مسؤوليات الجميع: البيت والمدرسة والجامعة ومنابر الإعلام والفكر والمسجد والكنيسة والنادي والمسرح والسينما ووسائل الاتصال الاجتماعي، بل وحتُى الشُارع، وغيرها الكثير.

لكن المسؤولية الأكبر تقع بامتياز على عاتق المؤسسات التعليمية، إنها ليست فقط قادرة على تمرير الثقافة من جيل إلى جيل، وإنما هي الأكثر تأهيلاً لممارسة تحليلها ونقدها بعقلانية وموضوعية، ومن ثم المساهمة في تجديدها المستمر المطلوب من جهة وفي انعكاس ذلك التجديد على المدرسة نفسها، بيئة ووسائل ومناهج وعاملين، من جهة أخرى.

دعنا نأخذ بعض الأمثلة لتوضيح مانعني في الواقع المدرسي وبالطبع الجامعي أيضاً.

أولاً، هل يستطيع القيام بالمهمة الثقافية تلك معلم لا يتمتع هو نفسه بثقافة واسعة عميقة، وذلك من خلال إعطائه جرعة كبيرة من الدراسات الإنسانية، الاجتماعية والنفسية والأدبية والفنية، وأساسيات العلوم الطبيعية والبيولوجية؟

إذن، فإعداد ذلك المعلم سيحتاج إلى مالا يقل عن ست سنوات من تعليم وتدريب عملي، وهذا بصراحة سيتطلب ما نادينا به عبر ثلاثين سنة من ضرورة تمهين مهنة التعليم لتصبح مهنة رفيعة المستوى، في القيمة الوظيفية والراتب والمكانة الاجتماعية، مماثلة لمهن الهندسة والطب والقانون على سبيل المثال.

المعلم المثقف ذاك سيمارس مع تلاميذه الأسس التي تتطلبها العملية التثقيفية: التساؤل والفضول والدهشة والإبداع والتجديد والاستقلالية الذاتية المتوازنة والمواجهة الشجاعة للأسئلة الوجودية الكبرى.

بدون ذلك المعلم ستظلُ المدرسة، وكذلك الجامعة، تجتُر نفس الثقافة، بكل تشوُهاتها وعللها، وتمررها من جيل إلى جيل دون تجديد وإغناء وتجاوز نحو الأفضل والأسمى والأعدل ودون إعداد للطالب ليمارس كل ذلك الرفض والتمرد بعد تركه للمدرسة والجامعة.

ثانياً، في طول وعرض وطن أمُة العرب يجري الحديث عن ضرورة وأولوية انتقال مجتمعات العرب من أنظمة الاستبداد إلى أنظمة الديمقراطية الشاملة العادلة، وبالطبع فإن ذلك الانتقال لا يتطلب فقط وجود أحزاب سياسية وانتخابات دورية وتبادل للُسلطة ووجود لمؤسسات تشريعية مستقلة عن التنفيذية، ذلك لن يكفي، بل وسيشوه وسينخره الفساد ويزور، إلا إذا رافقه بناء ثقافة سياسية ديمقراطية في عقل ووجدان وروح المواطنين، وعلى الأخص الأطفال والشباب والشابات منهم.

إن بناء تلك الثقافة لن يكفيها التعليم النظري وتلقين التلاميذ مبادئ الديمقراطية وتطبيقاتها، لأنها لن ترسخ في الأطفال والشباب إلا من خلال ممارستها في الصف وفي المدرسة والجامعة.

وإذن ستكون هناك حاجة لوجود مدارس وجامعات تمارس الديمقراطية في إدارتها وفي العلاقات بين أفرادها وفي اتخاذ القرارات الأساسية بشأن مسؤولياتها ونشاطاتها ومستقبلها. وهذا سيتطلب إشراكاً فعلياً للمعلم والطلبة، جنباً إلى جنب مع المسؤولين الإداريين، في إدارة المؤسسة التعليمية.

في هذه الأجواء تحترم كرامة الطالب الإنسانية، يتعلم الأخذ والعطاء والحوار المتسامح والتعايش مع الآخرين، يمارس استقلالية الشخصية ورفض الخضوع والتبعية ويطرح الأسئلة ويحصل على الجواب ويناقشه.

بناء الشخصية والقدرات الفكرية والنفسية والاجتماعية يحتاج إلى بيئة مدرسية وجامعية تسمح بتجسيد الأفكار في الواقع اليومي لحياة التلميذ المدرسية والجامعية.

ثالثاً، مهمة التثقيف لا يمكن أن تمارس وأن تنجح إذا كانت أحد أهم وسائل ممارسة ثقافة الأمة تلك، اللٌغة الأم، أي اللُغة العربية، مهمشة أو ضعيفة أو مهملة، سواء في المناهج أو في الممارسة الحياتية المدرسية والجامعية اليومية.

ولذلك فإن التوجه المجنون الحالي، في كل الوطن العربي، نحو خصخصة التعليم، يطرح موضوع تعليم اللغة العربية في المدارس والجامعات الخاصة بقوة وجدية، إذا سمح لتعلم واستعمال اللغات الأجنبية في المدارس الخاصة والجامعات الخاصة أن يكون على حساب تعلُم وممارسة اللغة العربية الأم، فإننا نهيّئ لتراجع ثقافة الأمة وتهميشها، ومن ثم تراجع وتهميش وتشويه هويّة الأمة، عروبتها، ومن ثم تخريج جيل بلا أحاسيس وطنية ولا انتماءات قومية.

إننا عند ذاك نحقق هدف الرأسمالية العولمية وأيديولوجيتها الليبرالية الجديدة في بناء إنسان عولمي لا يرتبط بأرض ولابشعب ولا بأمة، وبالتالي لا يرتبط بتاريخ أو ثقافة، سوى الثقافة العولمية ذات البعد الاستهلاكي الاقتصادي النهم والتسطيح الفكري والعاطفي والروحي.

جدلية الثقافة والتعليم يجب أن تأخذ حيزاً كبيراً ومميزاً في جداول أعمال وزارات التربية والتعليم العالي لأن قضية نوع وأهداف وممارسات الثقافة ستكون إحدى أهم مواضيع هذا القرن وهو يواجه مشاكل بالغة التعقيد والتشابك والأخطار.

تعليق عبر الفيس بوك