التوفيق والمصالحة رافد للعدالة

د . محمد بن سعيد الشعشعي

في الماضي البعيد كان التشريع المحتكم على شرع ربّ العباد والعرف القبلي القائم على الفطرة السويّة هما الفيصل في حل قضايا المجتمع والخلاف بين أفراده، وقد كفل الدين الإسلامي للعباد حقوقهم القاضية برفع المظالم عنهم، بل إنّ الأديان السماوية كلها على مرّ الدهور والأمم كانت تنهى عن الاعتداء والظلم وأكل مال الغير بدون وجه حق، لأنّ في ذلك اعتداء على معالم الحياة السوية القائمة على التوازن والانسجام والصدق، فالشرع ينهل من الأوامر الإلهية المنزلة من أجل صلاح البشرية والتوازن الذي يحفظ معالم بقائها.

ويؤدي العرف دورا مكمّلا وموازٍيا للشرع القويم، فهو قائم على أحكام وسنن منصفة ونزيهة وإن اختلفت في صياغتها وفي طريقة تطبيقها من مجتمع إلى آخر باختلاف الزمن والعادات والتقاليد والقيم التي تحكم ذلك الواقع إلا أنّها تصب في نهاية الامر في معين العدالة والبعد عن المظالم والمهالك والزور.. وعلى الرغم من بدائية الحياة وحاجة الناس في تلك العصور الغابرة إلا أنه كانت للعرف مكانة واعتبارا خاصا فهو يحمي الفرد والآخرين وينآى بالمجتمع عن براثن العشوائية والفوضى..

يساهم العرف بأحكامه وفضائله الفطرية في حل كثير من القضايا قبل أن تصل إلى قاعات التقاضي وسوح المحاكم التي تطورت مع الحياة وتعقيداتها إذ صارت المحاكم متخصصة بحسب نوعية القضيّة المطروحة أمامها، فهناك محاكم ابتدائية وهناك محاكم استئناف وعليا، واُخرى تجارية ومحاكم القضاء الإداري وغيرها من المحاكم العسكريّة التي يخضع لها منتسبو السلك العسكري.. علما بأن هذا التعدد ناتج عن التخصص الدقيق وتنوّع القضايا وتطور الجريمة ذاتها بسبب التقدم المادي والتكنولوجي الهائل.. وهذه المحاكم وإن كثرت وتعددت فهي لهدف نبيل يتمثل في منع الظلم ومجابهة التعدي على حقوق الغير ومحاربة الفساد في الأرض.

وما أنا بصدد مناقشته هنا هو تلك الثقافة السائدة لدى بعض المؤسسات سواء كانت حكومية أم أهليّة عن التقاضي وطول إجراءاته وإشهاره سلاحا في وجه الموظف إن طالب ببعض حقوقه حتى إن كانت مشروعة في نظر القانونيين.. ففي يوم من الأيام شاهدت بأم عيني أحد الموظفين يشكو للمسؤول وضعه وتأخر ترقياته لفترات طويلة ولأكثر من مرة وأسهب ذلك الموظف في شرح مظلوميته ومطالبته في الحق بالترقية، فما كان من المسؤول إلا أن ردّ عليه بكل ثقة قائلا: " إذا لديك حق فاذهب إلى المحاكم فأبوابها مفتوحة" .. وقف هذا الموظف مقهورًا ومستغربًا في نفس الوقت، وهذا الرد حقيقة حزّ في نفسي حيث إن فكره ثقافة المحاكم عند هذا المسؤول أو غيره سواء كان موظفا أو مواطنا أو مسؤولا بأن الحق لا ياتي إلا بالمحاكم، وبالطبع هذا التصرف والفهم يجانبه الصواب، وفي كثير من الحالات يجب إلا تصل الأمور إلى قاعات المحاكم ما لم تتعذر كل الطرق أو السبل التي قد تعالج مثل هذه الإشكالية، فحتى بعض المحاكم المدنية بها لجان توفيق ومصالحة مكوّنة من أهل المشورة والفكر والتي تسهم في معالجة كثير من القضايا والصلح فيها قبل أن تصل القضيّة إلى منضدة القاضي، لأن الصلح أولا هو سيّد الأحكام وبالصلح يكون المتنازعان متراضيين ولا يضمر أحدهما للآخر شيئا، وبالصلح أيضا يخف الضغط على المحاكم والقضاء وكذلك زحمة العمل، كما أن الصلح يوفر كثيرا من وقت الأطراف والمحكمة وربما الدولة ليتفرّغ الناس لما هو خير والقيام بأعمالهم وواجباتهم.. ويكون بالصلح والتراضي عودة إلى العرف والتقاليد النزيهة القائمة على الاحترام كما أسلفنا القول.

وأدعو المسؤولين والمؤسسات أن يتقوا الله موظفيهم، وألا يكون أداء الحقوق فقط عبر بوابات المحاكم وقاعات العدالة والمرافعات لأن في ذلك ضرر على العمل وإهدار للوقت، كما أنّه يقلل من ولاء الموظف للمؤسسة مما ينعكس على عزيمته وإنتاجه ويؤدي الى تثبيط حماسه، وفي المقابل قد ينظر إليه على أنه أساء إلى وزارته أو مؤسسته وربما يحارب بشكل مباشر أو غير مباشر.

لذا أقترح على المؤسسات أن تشكل لجنة من القانونيين والخيرين لدراسة مثل هذه الحالات بحياديّة تامة ونزاهة وإذا رأت أن الموظف مستحق وأن ظلما ما وقع عليه فعليها أن ترفع توصياتها إلى رئيس الوحدة لاعتمادها ورفع الظلم عنه، وأن يكون ذلك وفق مبدأ أنّ المواطن الصالح مستحق لخيرات بلده، وإذا رأت اللجنة غير ذلك فعليها الجلوس مع الموظف وإقناعه وشرح الأنظمة والقوانين له، وأن توضح له خطابات الجهات القانونية والردود من جهات الاختصاص وكل حيثيات الموضوع حتى يقتنع الموظف؛ وإذا لم يرض تكون الوحدة قد برأت ذمتها منه ولا تلام بعد ذلك في شيء..

كما نطالب من ناحية أخرى بتشكيل لجان توفيق ومصالحة في محاكم القضاء الإداري تأسيا بالمحاكم الأخرى التي بها لجان توفيق ومصالحة، حتى تقوم بالتوفيق والسداد بين الموظف ومؤسسته في الحالات التي ترد إلى المحكمة وترى أنّ الصلح فيها ضروري؛ عطفًا على الفوائد التي أشرنا إليها سلفًا.

تعليق عبر الفيس بوك