أفسدتني القراءة!!

أمل السعيدية

تحدثنا ليلة أمس أنا ورفيقي عن القراءة. قلتُ له: أحس أن القراءة تفسدك مع مرور الوقت. نظر إليّ وقتها بارتياب، لأنّه يعرف جيداً أنني لن أقدم تلك المبررات "الكليشهات" بخصوص تقدم الوعي وامتلاك لغة مغايرة عن تلك التي يستخدمها الناس في المجتمع الذي تعيش فيه. لا، القراءة مفسدة لأنّها ترفع سقف معاييرك فيما يتعلّق بالمتعة، تلك اللحظات اللذيذة التي تعيشها وأنت تقرأ، تصبح مع مرور الوقت مثل جرس الإنذار الذي يحرجك. أصبحت في الآونة الأخيرة لا أحب حضور الحفلات الغنائية، اكتشفت هذا قريباً، لأنني عندما سمعت صوت المسجلة الخارجة من صفحة من رواية لاتينية قرأتها مؤخراً كانت أرق وأعذب. وهطلت في أذني في تواشج خفي مع الروح.

عندما اقرأ، أسمع، وأرى، وأشم، وألمس، ولا شك أنني أكبر وأتغير وأرتبك وأعبر عن ارتباكي، وأجن، وأهدأ، وأجرب أدواراً جديدة من محل تجربتي أنا، كأنما هذه الأنا التي تخصني بكل أبعادها الفيزيقية والميتافيزيقية ترحل إلى مكان آخر، وهذا مهم، أنّ أؤكد أنّ تلك التي تذهب إلى تشيلي، براغ، حيفا، ليست إلا أنا، فالقارئ، إنما يوضب أمتعته عندما يقرأ، ليسافر هو، لا غيره، لأن القارئ يعتمد على فهمه الخاص، ذلك الفهم الناتج عن اختبار التجارب الشخصية وعيشها. ألم يقل الفيسلوف "الجمال في عين الرائي" أي أن عينك الحساسة تجاه الأشياء الجميلة، هي الجميلة في الحقيقة. كذلك الحال مع القراءة، وجدانك يصبحُ مثل البدوي، الذي لا يكل الترحال والسفر، وفي كل مرة تترك فيها مكانًا ما إلى آخر، تكبر تجربتك، فتكبر رحلتك القادمة. وهنالك أمر آخر لا أنساه، لقد عرفتني القراءة بأصدقاء العمر وبرفيقي نفسه الذي بدأت به مقالي هذا، إنّ الشغف بها لا نهائي، وهو حياة فسيحة هائلة، مثلما يشغف أحدهم بالرسم، وآخر بلعب كرة القدم، وكلها خيارات مقدرة ولها مكانتها، كذلك يحب الكثيرون القراءة. بورخيس فقد نظره ولم يستطع أن يقرأ بعدها، الجاحظ سقطت عليه مكتبته، وأنا تفسدني القراءة لأنني لا أعرف المتعة في غيرها من الأشياء.

لقد بدأت قصتي الحقيقية مع القراءة بعد أن قرأت نصاً لجبران خليل جبران في إحدى كتب المدرسة الابتدائية، اتذكر أنني بعدها ابتعت أعماله الكاملة من معرض الكتاب في مسقط، وأخذت أطوف معها في معانٍ جديدة وبديعة، وفي يوم من الأيام استعصت عليّ قراءة كتابه "النبي" الذي علمت لاحقاً أنه كتاب مترجم، ويومها أهديت كتبه لصديقتي المقربة.

وأذكر قبلها مكتبة البيت، وكتب البؤساء لفيكتور هيجو ورواية أحدب نوتردام، كنت صغيرة جداً لكنني لا استطيع نسيان كتاب عن "الجن" بصورة في الغلاف لـ "جني" متخيل، أخذت أحلم به في مناماتي وأهجس به طوال الوقت. الآن تعرّفت على أصدقاء وندماء لم أكن لأتخيّل بأنني سأكون في صحبة معهم، فأنا أعرف دوريان لوكس الشاعرة الأمريكية جيداً، وعبدالرحمن منيف تعرّفت عليه مبكراً ومازلنا (كالسمن والعسل) كما يقال في الدارجة المحليّة، ومحمد الثبيتي وغسان كنفاني وبسام حجار وسعدي يوسف، وبيتر هاندكة، يورو اغوتا، وميشيما، ورامبو، ولوركا، ومحمود عمر، وحنة ارندت، وغيرهم. وللتأكيد على إفساد القراءة لي، فإنني أبكي أحياناً لطول المسافة بيني وبينهم، ولأنني لا استطيع مجاراة أصدقائي في عطائهم وينتابني تجاههم ذلك الشعور بالحسد، الذي يدفعني لمحاولة شق طريق الكتابة إلى وقت لا أعرف متى سينتهي ولا أريد له ذلك.

ألا يقول سيوران إن الحسد واحد من أهم الأشياء لتقدم الحضارات، أوتراه عنى الأنانية، حسناً أنا أحب نفسي لأنني أريدها أن تتواصل مع من سيعتبرونها صديقة جديدة. أليس أمراً يدعو للحب؟ بدلاً من الشغف بالاستهلاك كما تريد لنا الرأسمالية أن نفعل، أو التطرف الديني، أو التشنجات القبلية والاثنية. أليس سليماً أن يعشق المرء القراءة؟ مع أنها وحدها لا تستطيع أن تنقذك من دورك الشرير والدلائل على هذا كثيرة، لكنها ربما تدفعك لفهم اختيارك جيداً، هل تريد أن تكون شريراً؟ هل أنت مدفوع للشر؟ كيف تصبح شريراً ولم؟ منذ متى وأنت شرير؟ كل هذه الأسئلة وأكثر ستجد حلها إذا قرأت، لكنني لست مسؤولة على الاطلاق عن إفساد القراءة لك.

تعليق عبر الفيس بوك