حين يفخر الجميع بالعربيَّة ستقوى

 

 

زينب الغريبيَّة

 

يُطْرح موضوعُ الهُويَّة والتمسُّك باللغة العربية بشكل متزايد في المنطقة الخليجية بصفة خاصة وفي المنطقة العربية بصفة عامة، في حين يرى البعض أنَّ الأمرَ مُبالغ فيه، وأنه لا ضَيْر من تكلمنا باللغة الإنجليزية أو بغيرها من اللغات؛ لأننا نعيش في عصر مُختلف يسمى "عصر العولمة والحدود المفتوحة"، يرى البعض الآخر أننا إن لم ننتبه فإننا سنخسر هويتنا التي هي أثمن ما نملك؛ وبالتالي ثمَّة جدل يُثار حول هذا الموضوع منذ ما يزيد على أربعة عقود، يُلامس الآذان لكن لا يلامس السياسات والإرادات، إنه مجرد انفعال يحتمه الشعور بالذنب تجاه اللغة التي يفتخر بها الآخرون في هذا العالم إلا نحن؛ لذا فطروحاتنا لا تغيِّر شيئا، لأن الإنجليزية تنتشر في بلداننا والعربية تتراجع، والكل يريد أن يثبت أنه قادر على التحدث بها، والكل يريد أن يُتقنها أبناؤه دون أن يعلِّمهم الافتخار بلغتهم الأم في الوقت نفسه.

 

أطرحُ هذا الموضع المهم من واقع مجريات الجلسة الأولى في منتدى دراسات الخليج والجزيرة العربية، الذي يُعقد خلال الفترة من 5-7 ديسمبر الجاري، والذي تلقيت دعوة للمشاركة فيه لأنه يطرح في هذا العام موضوع إشكاليات التعليم وواقعه وتحدياته، حيث طرح موضوع اللغة والهوية وعلاقتهما بالتعليم في الجلسة الأولى من خلال ورقتين كانت الأولى بعنوان "شيء من المأزق الهوياتي في التعليم الجامعي الخليجي: الهجرة نحو الإنجليزية"، في حين جاءت الورقة الثانية بعنوان "هوية التعليم في مؤسسات التعليم العالي بدولة الإمارات: جامعة زايد نموذجاً"، وتلتقي الورقتان في مضمون واحد وهو أنَّ التعليم في الخليج يتم بلغة غير اللغة العربية رغم الخطابات الرسمية والشعبية المنادية بالحفاظ على الهوية، والبعض برر هذا بأنه نتيجة الربط بين التعليم وسوق العمل، والبعض يرى فيه تجنيًّا على الذات الحضارية، وتعبيرا عن ضعف كبير، وبناء لأجيال لا يوجد رابط بينها وبين تاريخها، وأيًّا كانت المبررات والتفسيرات لهذا النهج فإنني أجد أن القضية أعمق بكثير مما طرحت به، وأن الفتى العربي في الخليج أصبح غريبَ اللسان في منطقة لم يعد المتحدثون فيها بالعربية هم الأكثرية بل أصبحوا أقلية، وأن العربية لم تعد اللغة الأم إلا في الدساتير والخطابات الرسمية، بل إنَّ كثيرًا من المؤسسات أصبحت تستخدم الإنجليزية في خطابها الداخلي، وكثيرًا من المسؤولين يتحدثون بها في المؤتمرات الخارجية بدلا من أن يتحدثوا ويعبروا عن قضاياهم بلغتهم الأم؛ اعتقادا منهم بأن ذلك سيجعل العالم يفهم ما يريدون بشكل أفضل، فكانوا أسوأ مدافع عن قضاياهم بذلك النهج.

 

لفت نظري أنَّ أمر اللغة الأم يمثل هوية لا تنازل عنها في دول العالم حتى تلك التي تنادي بتبني اللغة الإنجليزية والانفتاح على الآخر، وتقبل لغته، لكن هذا الآخر لا يطبق ما ينادي به؛ ففي الوقت الذي يُطالِب فيه الآخرين باستخدام لغته تحت ذريعة قبول التنوع والتعددية الثقافية نجده يرفض أن تنتهك حرمة لغته، وحتى أعطي مثالًا قريبا وواقعيا لذلك، أدعوكم لتتبع الجدال الدائر بين مرشحي الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأيام حول موضوع اللغة لندرك أنَّ القضية كبيرة جدًّا، حين تصبح عنصرا من عناصر السباق الانتخابي في الدولة العظمى في العالم، حيث انتقد الملياردير وعملاق الإعلام دونالد ترامب المرشح الجمهوري للانتخابات جيب بوش، والسبب هو أنَّ بوش يستخدم الإسبانية في أحاديثه الانتخابية بدلا من التحدث باللغة الإنجليزية اللغة الأم، وقال إنَّه يخشى لو فاز بوش أن تتحوَّل الإسبانية إلى لغة رسمية للحديث في الولايات المتحدة، وقال على وجه التحديد: "يروقني جيب، فإنه شخص لطيف، ولكنه يجب أن يكون قدوة ويتحدث الإنجليزية فقط حين يكون في الولايات المتحدة... إنَّ الإنجليزية هي لغتنا الرسمية شئنا أم أبينا، هكذا يتعيَّن على الناس أن تتحدث لكي يندمجوا في المجتمع الأمريكي"، وهو يُركِّز على هذه المسالة اللغوية المرتبطة بالهوية بدرجة كبيرة لدرجة جعل منها شعارا لحملته الانتخابية وهو "الإنجليزية فقط".

 

فماذا نقول نحن لترامب والإنجليزية ليست لغتنا الأم، لكنك لا تستطيع أن تعيش دون الإنجليزية؟ ماذا نقول له وهو ينادي بأن يكون بوش قدوة وكثير من قادة التعليم الذين يتحدثون عن الحفاظ على اللغة العربية يتحدثون باللغة الإنجليزية في كل المحافل التي يوجدون فيها؟ ماذا نقول له والعربية ليست أولاً ولا ثانياً، إنه لا مكان لها إلا في الأوراق والخطابات العاطفية التي تثار هنا وهناك؟!! ماذا نقول والناس يدعون إلى الحفاظ على اللغة من أجل الاندماج في المجتمع؟! هل نقول له إننا نعلمهم اللغة الإنجليزية من أجل أن يندمجوا في مجتمعات وثقافات أخرى مختلفة عنهم؟! لا أحد يفهم أنَّ دعوة الحفاظ على اللغة هي انغلاق وانكفاء، إنما هي دعوة للاعتزاز، فلا يمكن أن تصبح لغة قوية إلا عندما يظهر أهلها اعتزازهم بها من خلال حديثهم بها في كل مكان حتى لو كانوا يجيدون غيرها، وهذه الجموع الكبيرة التي تأتي للعمل في المنطقة لو وضع شرط اللغة أساسا لها لتعلموها وتفاعلوا بها، بدلا من أن يجبر أهلها على تعلم لغتهم من أجل التفاعل معهم.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك