د. سالم بن عبدالله العامري
من الظواهر اللافتة في المشهد السياسي والقيادي في العديد من الدول، بروز بعض المسؤولين والوزراء السابقين بعد مغادرتهم مناصبهم كأصوات جريئة تتحدث بشفافية، وتنتقد السياسات التي كانوا جزءًا منها، بل أحيانًا من صُنّاعها. يطلون عبر شاشات الإعلام بوجه الناصح الحكيم، في حين كانت أصواتهم، وهم في موقع القرار، إما غائبة أو مشوهة، مشبعة بالتبرير والدفاع، أو مكمّمة تحت وطأة الصمت والخوف.
هذا التحول المفاجئ في الخطاب يثير تساؤلات عميقة حول العلاقة المعقدة بين السلطة والحقيقة، بين المنصب والضمير. كيف لمن كان في قلب دائرة القرار، يمتلك النفوذ والقدرة على الفعل، أن يصمت أو يبرر أو حتى يُضلل، ثم يتحول فجأة، بعد مغادرته، إلى شاهد حق وناقد موضوعي؟ أهو تحرر من قيود المنصب؟ أم تبرؤ متأخر من المسؤولية؟ أم محاولة لإعادة رسم صورة ختامية مشرفة لمسيرة بدأت بانحراف أو انتهت بتقصير؟
ليست هذه المسألة مجرد مفارقة، بل ظاهرة متكررة تكشف خللًا بنيويًا عميقًا في بنية العلاقة بين الصدق والسلطة، بين المسؤولية والمساءلة. فكأن المنصب ما إن يُشغل، حتى يُلقي على صاحبه ثقل الصمت، أو يجبره على التجميل والتهدئة، بينما تنطلق الألسن بعد التقاعد كما لو كانت قد تحررت من قيد طويل وتذكرت فجأة صوت الضمير.
يرى البعض أن ضغط المسؤولية وتعقيد اتخاذ القرار داخل أروقة السلطة يفسّران هذا التحول في الخطاب، على اعتبار أن الظروف لا تسمح بكشف كل شيء أو قول الحقيقة كاملة. ورغم أن هذا التفسير يحتوي على شيء من الصواب، إلا أنه لا يبرر التباين الحاد بين ما يقوله المسؤول وهو في منصبه، وما يقوله بعد مغادرته. بل إن هذا التناقض يكشف عن خلل أعمق في فهم معنى المسؤولية ذاتها، عندما تُختزل المسؤولية في إدارة مغلقة تخشى الحقيقة، وتتعامل مع الاعتراف بالأخطاء كخطر يهدد بقاءها، لا كفرصة للإصلاح.
التحليل العميق لهذه الظاهرة يقودنا إلى فهم مركّب للعلاقة بين المنصب والحرية، بين السلطة والخوف، بين الحقيقة والمصلحة. فثمة من يرى أن المناخ السياسي أو القيادي لا يسمح بالبوح، وأن قول الحقيقة في لحظتها قد يُفسَّر على أنه تمرد أو تقصير أو حتى خيانة. لكن الواقع يُثبت أن تأجيل الحقيقة لا يحفظ المؤسسات، بل يراكم الأزمات، ويفتح الأبواب للانفجار أو الانهيار.
المسؤول الذي يختار الصمت وهو في موقع التأثير، ثم يتحدث بعد فقدانه تلك القدرة، لا يُسهم في الإصلاح، بل يُفرّغ الحقيقة من أثرها. فالكلمة التي تُقال في وقتها تملك القدرة على تصحيح المسار، أما إذا جاءت متأخرة، فهي لا تتعدى كونها مرثية متأخرة على أطلال وطن كان ينتظر من يُنقذه، لا من يندب مصيره.
من هنا، فإن ظاهرة "المسؤول السابق" يجب أن تدفعنا إلى إعادة النظر في ثقافة السلطة والإدارة، وفي مناخ حرية التعبير داخل مؤسسات الدولة. فالمطلوب ليس شجاعة متأخرة بعد الخروج من المنصب، بل بيئة عمل تُمكّن المسؤول من قول الحقيقة وهو في موقع القرار، لا بعد مغادرته.
ختامًا، قد لا تفقد الحقيقة بريقها حين تُقال متأخرة، لكنها تفقد فاعليتها. والمؤلم حقًا أن تأتي الكلمات بعد فوات الأوان، حين يُغلق باب الفعل، ويصبح الصوت مجرد صدى في فراغٍ لم يعد يسمع، ولا يملك القدرة على التغيير.