تجديد الخطاب الاقتصادي

حاتم الطائي

المتأمِّلُ في المفاهيم التي يُركز عليها الخطاب الاقتصادي العُماني، يجد أنَّها لم تتغيَّر كثيراً خلال الخمسة والعشرين عاماً الأخيرة، رَغْم المستجدَّات والمتغيِّرات التي فرضتْ نَفْسَها على الواقعِ الاقتصاديِّ العالميِّ؛ حيثُ لا تزال تلك الأفكار والمفاهيم تُراوح مَكَانها لجهة تكرار النمط السائد، وتبنِّي الحلول المؤقتة، بعيدا عن الصورة الكلية التي تفتح الآفاق أمام استدامة الفرص.

... إنَّ بدايةَ الانعتاقِ من أسر المفاهيم التقليدية يتمثَّلُ في: تبنِّي مفاهيم جديدة تركِّز على المقوِّمات التي تتمتَّع بها السلطنة، وتوظيفها في إطارٍ كُليٍّ وشموليٍّ؛ بحيث أنَّ مشروعًا واحدًا -على سبيل المثال- يُوفِّر حلولاً لأكثر من مُعضلة اقتصاديَّة تُواجهنا سواءً في خَلْق الوظائف ودَعْم قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، أو خلق قيمة مُضافة للمجتمع المحلي في المنطقة القائم فيها. وهذا يعتمدُ على تخطيطٍ منهجيٍّ يُحدِّد العائدَ، ويُقيِّم نتائجَ المشروع على المدَيَيْن البعيد والقريب.

إنَّ تَوَجُّهاً كهذا يكفُل مُعَالجة ما يَزْخر به خطابُنا الاقتصادي السائد من معضلات: التعمين، والتدريب، والقروض...وغيرها في حزمةٍ واحدة، ولن نضَّطر إلى تَجْزئتها للتعاملِ مَعَها فِي سياقاتٍ مُنفصلة؛ ممَّا يُصعِّب اجتراح الحلول الجذرية لها.

إنَّ إصرارَنا على تَضْمين الخطابِ الاقتصاديِّ للمفاهيم ذاتها، واجترارِ نَفْس المشكلات، ليعكسُ -في جانب منه- ضَعْفاً في ديناميكية الأفكار، وبُطء حراكها لمواكبة المستجدات الاقتصادية داخليًّا وخارجيًّا، خاصة في هذا العصر الذي يتَّسم بالسرعة والثورة الرقمية الهائلة.. وهي سمةٌ ينبغي غَرْسها في صميمِ مفاهيمنا في التعامل مع التحديات المتجددة.

ولعلَّ التحدي الأكبر الذي يتمثل فيما نعيشه اليوم من أزمة انخفاض أسعار النفط -هذه الأزمة التي لا يظهرُ في الأفق ما يُنبئ بسرعة تلاشي تداعياتها عن واقع الاقتصادات المعتمدة على النفط، ونحن منها بالتأكيد- يفرضُ علينا ضخَّ أفكارٍ جديدة لتطوير الاقتصاد العُماني بمفاهيم حيوية تَضْمن التوظيف الأمثل لما تتمتَّع به بلادنا من مقومات، وتحويلها إلى فرص حقيقية؛ من خلال تبنِّي إجراءات، وتحديد آليات تكفُل لنا الاستفادة القصوى من عناصر: الموقع الإستراتيجي، والاستقرار السياسي، والعلاقات الدولية المتميزة، والبيئة الاقتصادية الصحية، إضافة إلى تكامل البُنى الأساسية.

كما تحتِّم المرحلة أنْ ننحازَ إلى المفاهيم الاقتصادية الكلية، بدلا من التركيز على الحلول المالية -والتي من ضمنها: اللجوء إلى الاقتراض- باعتبار أنها ستسلمنا مُستقبلا إلى مشكلات أفدح مما نُعانيه حاليا، خاصة وأنَّ هذه القروض ستوجَّه إلى الاستهلاك، وليس القطاعات المنتجة.. فكما هو معلوم، فإنَّ الاقتراضَ من المؤسسات المالية الكبرى -كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي- مُرتهنة باشتراطات قد لا تناسبنا.

وعلينا أيضا تَوْسيع أفق فكرنا الاقتصادي؛ بالتركيز على الحلول الاقتصادية التي تَرْمي إلى تحفيز القطاعات الاقتصادية لتحقيق نقلة نوعية في الاقتصاد الوطني. ويجب أن يكون هاجسنا الأساسي مُتمثلاً في: تنمية القاعدة الإنتاجية للاقتصاد العُماني؛ أي تطوير حجم الناتج الوطني الإجمالي بمختلف قطاعاته -الخدمية والإنتاجية- فعلى سبيل المثال: إذا كان الناتج الوطني قُدِّر بـ80 مليار ريال في العام 2014؛ فالتحدي يكمُن في كيفية الوصول به إلى 200 مليار خلال خمسة أعوام مثلاً، مع إيجاد خارطة طريق تحدِّد القطاعات والآليات لتحقيق هذا الهدف، بمشاركة الجميع -حكومةً وقطاع خاص وشركاء دوليين- على أن يكون منهاجَ عمل نسترشدُ به في تعزيزِ أداء كافة القطاعات؛ وبالتالي تحقيق الهدف المنشود في تطوير اقتصادنا الوطني.

وسيرًا على ذات الدرب، فقد تمَّ تحديد القطاعات الواعدة ضمن الخطة الخمسية التاسعة؛ وهي: التعدين، والثروة السمكية، والسياحة، والخدمات اللوجستية، ولكن يبقى أنْ نبحث عن النموذج الأمثل لتفعيل هذه القطاعات اقتصاديًّا؛ من خلال وضع الخطط وصياغة الآليات اللازمة لذلك. ولكن يبقى التساؤل: هل يكون ذلك عبر الاستثمار الحكومي، أم عن طريق القطاع الخاص، أم عن طريق فتح الأبواب للاستثمار الأجنبي للاستثمار في هذه المجالات الواعدة؟

وإذا ما اتَّبعنا الحلولَ الاقتصادية الكلية، فقد لا نحتاج إلى البحث عن نماذج بعيدة في سنغافورة أو كوريا (مثلا)، أو تعيين مُستشاريْن عالميين؛ لأنَّ لدينا تجاربَ عُمانيَّة رائدة يُمكن التأسيس عليها؛ ومن هذه النماذج: في مجال استخراج النفط والغاز مثلا شركة تنمية نفط عُمان (بشراكة دولية ممثلة بشركة شل العالمية)، هذه الشراكة تُمثل نموذجاً رائعاً لنا للاستفادة منها في تطوير القطاعات الأخرى؛ باعتبارها ثروات وطنية.

وقد يقولُ قائلٌ: إنَّ قطاعنا الخاص لا يملك الخبرات اللازمة للدخول في مشاريع من العيار الثقيل في قطاعات التعدين مثلا، وهنا أقول: لابد للحكومة أن تواصل الأخذ بيد القطاع الخاص، وتحفيزه على القيام بدور الشريك التنموي القادر على النهوض باستحقاقات الشراكات العملاقة؛ من خلال إدخال هذا القطاع كطرف أصيل في الشراكات التي تعقدها مع جهات دولية مُتمكنة؛ لتوطين التقنية والخبرات اللازمة، والتي تصب محصلتها النهائية في مصلحة اقتصادنا الوطني.

وهنا تتوجَّب الإشارة إلى أنَّ السلطنة أمامها فرصٌ عديدة للاستفادة من الكثير من المؤسسات الدولية المرموقة، والتي تُعتبر مَرْجعا في مجالها، ومن ذلك -على سبيل المثال- البنك الآسيوي الاستثماري للبُنى الأساسية -الذي أطلقته الصين قبل عام- فالسلطنة من المؤسِّسين له؛ وهو ما يعني إمكانية استفادتنا منه بشكل كبير في خلق وتمويل شراكات دولية في القطاعات الاقتصادية الواعدة.

وبالحديث عن الشراكات الدولية ذات الجدوى الاقتصادية العالية، يجيء مشروع تطوير ميناء باجامايو والمنطقة الصناعية بتنزانيا، وهي تجربة رائدة يجري تنفيذها بشراكة عُمانية-صينية-تنزانية، وهي قطعًا تجربة قابلة للاستنساخ في مسندم (مثلا) لبناء ميناء ومنطقة حرة، ليس بالضرورة مع نفس الشركاء، بل يُمكن استقطاب شركاء عالميين جُدد لها.

إنَّ الطرحَ أعلاه يأتي في سِياق اجتهاد استشرافي لمقابلة تحديات مرحلة ما بعد النفط، والتي يبدو أننا على مشارف الدخول في تخومها، وهو أمر -كما أسلفنا في صدر هذا المقال- يفرضُ علينا أنْ نشرع في العمل وفق منهاج الحلول الاقتصادية الكلية الهادفة إلى تجديد حيوية الاقتصاد الوطني؛ عبر تطبيق مفاهيم: الشراكة الدولية، والعائد على الاستثمار، والإنتاجية، والتقنية، واقتصاد المعرفة، والتوظيف الذاتي؛ لتعظيم الاستفادة من ثمار ومقوِّمات 45 عاماً من النهضة المباركة.

تعليق عبر الفيس بوك