البحث عن دولة المواطنة أم الدولة الآمنة

د. سيف بن ناصر المعمري

 

أكتب هذا المقال من الدور الثامن في فندق "موفنبيك" بمنطقة القصيم بالمملكة العربية السعودية حيث عقد خلال الفترة من (17-19/11/2015) مؤتمر على قدر كبير جدا من الأهمية بعنوان "تعزيز قيم المواطنة ..في مواجهة الإرهاب"، بتنظيم من جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية هذه الجامعة التي تعودت على طرح الأسئلة الصعبة، وعلى طرق القضايا الاستراتيجية المُعقدة في ندواتها وملتقياتها ومنشوراتها الكثيرة والمتعددة، جاء هذا المؤتمر ليضعنا أخيرا أمام المعادلة الصعبة التي ظل الجميع يهرب منها لعقود، أو أنّه ظل يُقلل من شأنها، أو أنّه لا يلتف إليها ...إنّها العلاقة العكسية بين المواطنة والإرهاب، إما تحقيق المواطنة بكافة متطلباتها، أو مواجهة الإرهاب بكافة آثاره المدمرة، فهل تطلب الأمر كل هذه العقود لكي ندرك هذه المعادلة؟..هل تطلب الأمر أن نضحي بمئات الآلاف من المواطنين العرب الذين دفعوا دماءهم ثمناً للنفط وغيره؟ الذي أشترته الدول الكبرى "بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ"، بل إنهم اليوم يؤكدون أنهم فيه "مِنَ الزَّاهِدِينَ" (سورة يوسف، الآية 20)، ويحطمون أسعاره بطريقة تجعل دولاً كثيرة لا تعرف كيف تُحافظ على استقرارها في ظل ذلك، لا أعرف كيف يُمكن لنا أن نواجه كل هذه الأسئلة الكبيرة والمعقدة ..في فترة تعم فيها الفوضى ليس فقط الساحة السياسية العالمية إنما أيضاً الساحات الأخرى الدينية والإعلامية والتربوية ..فلا نستطيع أن نتبين الخطأ من الصواب، أو الكذب من الحقيقة، لا نزال نحاول أن نفهم ..ولو كنّا أمة تفهم بسرعة لما وصلنا إلى هذا المآل الصعب.

جاءت وفود جميع الدول العربية من أكاديميين وباحثين وقضاة وأمنيين للبحث في هذه المعادلة، وللإجابة عن سؤال هو: كيف يمكن أن نُعزز المواطنة ..لكي نقلل من أخطار الإرهاب؟ وطرح مثل هذا السؤال يعني أشياء كثيرة من أهمها أنّه يمثل اعترافاً صريحاً لا جدال فيه أنّ الإرهاب يعتبر أحد نتائج اختلال المواطنة، وهذا الاعتراف هو الذي قاد إلى الحل الذي تمثل في عنوان المؤتمر وهو "تعزيز قيم المواطنة في مواجهة الإرهاب"، إذن يبدو أنّ الأمر محسوم ولا داعي لهذا المؤتمر وغيره، ولا داعي لكل الدراسات التي أُعدت وكل الأسئلة التي طُرحت، ولا داعي لكل الألم والمخاوف التي بثها جميع المشاركين في منطقة بريدة الوادعة الآمنة التي تمنحها النخيل التي زرعت في كل مكان فيها شموخاً وكبرياء، هذه المدينة الغارقة في النور والتفاؤل بمستقبل أفضل يأتي مع كل صباح من صباحاتها، ويبدو أن المنظمين كانوا دقيقين في اختيار مكان هادئ يحتمل كل الأنين الذي تحمله أوراق هذا المؤتمر، الذي يأتي في وقت طالت يد الإرهاب فيه مناطق بعيدة ظن ساكنوها وسياسيوها "أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم" (الحشر 2)، ولا داعي لأن يكترثوا لمشهد المذابح البربرية لغيرهم من البشر في العالم رغم امتلاكهم لأسباب القوة والتكنولوجيا القادرة على التقليل من وطأة الإرهاب ومروجيه، لكنها الأنانية العالمية الموغلة في اللاإنسانية التي نشاهدها في عالم القرن الحادي والعشرين الذين يدعي المدنية والتحضر.

ورغم الاعتراف الصريح بالعلاقة الطردية بين المواطنة والإرهاب، وكذلك بالحل الذي يمكن أن يقود إلى جعل الأمور في مساراتها الصحيحة، إلا أن الأمر ليس بهذه البساطة، لأنّ المؤتمر كشف عن تباين كبير في فهم المصطلحين الأساسيين السحريين اللذين يحركان الأحداث في المنطقة بأكلمها اليوم، حيث يبدو أن الفهم الشعبي والرسمي لمفهوم المواطنة لا يزال ملتبساً مما يقود كثيرين إلى استنتاجات لا تقود إلى معالجة مؤثرة في الحد من الإرهاب، والنتيجة أنّ الإرهاب يقوى، وصوته يكون هو الأعلى ...بينما يتراجع خطاب المواطنة المؤثر والذي يعرف الجميع استحقاقاته ومتطلباته، ولكن ينظرون إليه من زاوية ضيقة جدًا ..تقود إلى تفاقم في الأوضاع بدلاً من أن تقود إلى انفراج بها، ويقود إلى عمليات تجريب لحلول كثيرة لكن بدون فاعلية، لأنّ التشخيص لم يكن صحيحًا، والوصفة الطبية التي أعطيت كانت لمرض آخر.

لا أعرف حقيقة كيف لنا في ظل هذا الالتباس أن نُحدد أيّ تعزيز يمكن أن نقدمه للمواطنة؟ وكيف لنا أن نقاوم إرهاب يحمل أصحابه فكراً مختلفاً للدولة والمواطنة، فهم يرون أنّ الدولة المتخيلة واسعة عابرة للحدود، مواطنوها تجمعهم رابطة ليست قومية إنما إيديولوجية وبالتالي يحققون نجاحات كثيرة في الوقت الذي تخفق فيه الدول القائمة على الرابطة القومية في تعزيز مواطنة حقيقية تمنع أبناءها من الانضمام إلى هذه الدولة التي تُريد أن تنقل شرعيتها من الأذهان وترسخها في الجغرافيا، وكأنّ التاريخ يُعيد نفسه حين زرعت دولة إسرائيل في مكان مُعين من الوطن العربي، ولذا فنحن أمام النتائج نفسها وهي تغيير لحدود الجغرافيا، وخلخلة للتركيبة السكانية في دول الجوار التي تصبح مطالبة بتوطين من قدم إليها، دون أن تكون قادرة على منحهم نفس حقوق مواطنيها، مما يُرسخ في دواخلهم مشاعر الإقصاء التي تقودهم إلى العمل ضد المجتمعات الجديدة، فينشغل الجميع بتسخير إمكانياتهم ليس للتنمية إنّما لتحقيق الأمن.

وفي ظل هذا الواقع يتم اللجوء إلى مقايضة ربما لا تكون عادلة ولا تقود إلى استقرار على المدى الطويل ولا تبني مجتمعات المواطنة المنشودة .لكن الجميع سيرضى بها لضعف وخطورة البدائل الأخرى وهي مقايضة الحماية مقابل الأمن والاستقرار، حيث يُبدي النُّاس استعدادًا للتخلي عن حقوقهم مقابل حصولهم عن فضاءات جغرافية آمنة، مما يضعف من خطاب المواطنة في النهاية ويُقلل من إمكانية بناء مجتمعات مدنية تستطيع أن تقف في وجه خطاب الكراهية الإرهاب، ويقود إلى بناء علاقة عمودية للمواطنة تقوم على هيمنة لقوى المجتمع التي تلتقي مصالحها السياسية والاقتصادية والدينية في وقت تضعف إمكانات تمكين قوى الفئات الأخرى في التأثير في القرار مما يجعل فئات المجتمع منقسمة تتربص ببعضها البعض.

إنّ هذا المؤتمر يدق ناقوس الخطر في مرحلة حرجة جدًا، وفي وقت انفصم فيه عقد المواطنة في أكثر من بلد عربي، ولم تعُد الدولة ضامنة لا لحقوق المواطنة ولا لأمن مواطنيها، مما سهَّل من مهمة استغلالهم وتوظيفهم من قبل كثير من الأطراف الإرهابية، التي أصبحت أشبه بمغنطيس يجذب إليه الشباب الذين يتقاطرون عليها من كل فجٍ عميق في العالم، فمن أين لهم كل هذا التأثير والحضور؟ أن الأمر معقد جدًا... ومن لا يزال يعتقد أنّ المجتمعات يُمكن أن تحصن بخطابات سطحية لا تزرع الأمل على أرض الواقع فهم يزرع في أرض لن تنبت إلا شوكاً، ومن لا يزال يحمل خطابات تمييزية تقسم المجتمعات لن يحصد وحدة تمكنه من تكوين حائط سد منيع ضد الطوفان القادم من كل الاتجاهات، ومن يعول على خسارة الغرب فهو يحمل تقديرات خاطئة لأنّ منطقتنا هي مسرح كل هذه الفوضى، ومواردنا هي الممول لها، وسكانها هم ضحاياها، والذي لا يزال يثق في نجاح مغامرته الأخيرة فعليه أن يعي أنّ الأمر لم يعد مجرد مغامرة، بل أصبح لعبة خطرة جدًا ..وعليه أن يعود إلى رشده ..إنّها لحظة الحقيقة التي لا بد أن يعيها الجميع..نحن ندفع ثمن اللامبالاة بالمواطنة واستحقاقاتها خلال كل العقود السابقة ..وأقصى ما يُمكن فعله هو ليس القضاء على الإرهاب إنّما تقليل الثمن الباذخ الذي يدفع نتيجة له.

إنني أحسب أنّ الجميع قد سمع الصرخة التي أطلقها معالي الدكتور جمعان بن رشديد رقوش بعفوية وببلاغة وارتجال- قلما نشاهده من رؤساء الجامعات في المنطقة- في كلمته التي ألقاها في افتتاح المؤتمر حين قال "إنّ المواطنة سلوك وتطبيق"، إنّها عبارة تلخص كل معاني المواطنة، وحين تفرغ المواطنة من سلوكياتها وتطبيقاتها على أرض الواقع يقوى الإرهاب، أما حين ينال الجميع استحقاقاتها تقوى الأوطان ولا يستطيع أحد النيل منها.

saifn@squ.edu.om

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك