حين ترسخ المواطنة يندحر الإرهاب

د. سيف بن ناصر المعمري

ها هي فرنسا تنضم إلى قائمة الدول التي تكتوي بنار الإرهاب العالمي الذي يُريد أن ينال النيل من حالة الرفاه الإنسانية، ورُبما مع هذا الاتِّساع لنيران الإرهاب يُمكن أن يدرك العالم أنّه لا أحد بمنأى من عصا الإرهاب التي أصبحت غليظة قوية.. بحيث تكون ضرباتها مُوجعة جدًا.. وثمنها باهظ .. وها هو هذا التنظيم يُعيد خلال ليلة واحدة أوروبا إلى فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية من حيث التأهب الكبير في مختلف أنحائها، وكأنّ الموت يُطارد الجميع في كل مكان، في الوقت الذي لم يحرك أحدًا ساكناً حين كان هذا الموت يحصد كل شيء في منطقة الشرق الأوسط، ها هم البرابرة قادمون لتدمير الحضارة الإنسانية، فلا أحد يشعر بالأمان اليوم في هذا العالم ..وها هي الأحلام الرومانسية بالتقدّم والرفاه تتبدد يومًا تلو الآخر، والأزمات الاقتصادية والسياسية تجتاح العالم..وشعارات العدالة والحرية لا قيمة لها، والديمقراطية لم تقد إلى عالم متقدم .. يسوده الفكر والاستنارة ..إنما قادت إلى عالم يستعبد بعضه بعضًا، ويزداد فيه عدد اللاجئين والمهمشين، وتزداد فيه مشاعر الكراهية والتفرقة العنصرية، ويفقد ملايين البشر ليس حقوق المواطنة إنّما الحق في الحياة، وبعضهم يحاول يُغامر في البحث عنها فتبتلعه أمواج البحر الهادرة ..وإن نجا من البحر لن ينجو من وضعه في ملاجئ معزولة عن العالم ..لا أحد يسأله عنه.. فأين العقلانية والحداثة والتقدم؟ وأين الفردوس الذي كان يحلم به الإنسان في هذه المنطقة وفي هذا العالم....إنّها اللحظة الأكثر صعوبة التي يمر بها العالم منذ الحرب العالمية الثانية ..والسؤال الذي يطرح الآن من الذي ساهم في تهيئة هذه البيئة لينبت فيها كل هذا التعصب؟ لا أحد يود طرح مثل هذه الأسئلة.. ولكن حين تغيب العدالة الاجتماعية.. وتنحسر فرص الحياة .. يبدأ خفافيش الظلام في العمل على استغلال مشاعر المُهمشين وتجنيدهم ليصبحوا قتلة في وقت كان بالإمكان مساعدتهم ليصبحوا مواطنين وبشر منتجين ومسالمين ..لكن لا أحد كان يتوقع أنّ حالات التهميش التي تطال كثيرًا من البشر في مناطق مختلفة من العالم ستقود يومًا إلى هذا الحصاد المر والصعب، إنّها الفوضى التي تجتاح العالم وتقوده إلى مصير صعب يفقد فيه كثيراً من أسباب تقدمه وتنميته ورفاهه، وأصبح خطاب حقوق الإنسان ضعيفًا في مقابل خطاب الإرهاب والقتل، وفي حين لم يحظ العالم بمساواة في حقوق الإنسان ..ها هو يتساوى في دفع ثمن الإرهاب ..إنها المساواة التي لم يكن يرغب فيها أحد..خاصة أولئك الذين قادوا إلى خلق هذه الظروف المُحفزة لازدهار الإرهاب..

إنّ المعالجات العسكرية لن تقود إلى أيّ تقدم.. ما سيحقق التقدم هو إعادة تقديم مشروع مواطنة إنساني يُعيد الأمل للملايين الذين دفعوا ثمن كل هذه الأخطاء السياسية ..وكل هذا التدخلات الخارجية الإمبريالية التي صادرت الأمل لعقود طويلة، فالصراعات والحروب قوضت حق الإنسان في الحياة الكريمة والآمنة، لأنّ هذه الصراعات تؤدي إلى تفتيت للوحدة الوطنية، وتجعل أبناء الوطن الواحد منقسمين على أنفسهم، كل فريق منهم يدعي أنّه على صواب، ولا يقبل للحرب بديلاً لحل هذا الخلاف، مما يؤدي إلى انهيار سلطة الدولة باعتبارها الضامن الرئيسي لتحقيق المواطنة، ولذا أصبح تعزيز المواطنة هو المشروع الرئيسي لكثير من دول العالم بشكل خاص، والدول العربية بشكل خاص، وتزداد تحديات هذا المشروع نتيجة ظهور ظاهرة "الإرهاب" وتفاقم خطرها على جميع البلدان العربية، مما يعني أننا أمام خيار لا محيص عنه للخروج من هذا النفق المظلم الذي تمر به المنطقة وهو تعزيز المواطنة، وإعادة بناء المواطن ليكون مسؤولاً عن بناء وطنه لا معولاً لهدمه وإراقة دماء مواطنيه.

يهدف الإرهاب إلى استخدام أسلحة طائفية لتفتيت مجتمعات المنطقة، وباستخدامه لهذا السلاح يريد أن يقول إن هناك خللاً في المواطنة لابد من مواجهته بالعنف والقتل، ولذا كانت الحوادث التي تعرضت لها مجموعة من دول المنطقة والدول المحيطة خلال هذا العام محاولة لزعزعة الأمن وتفتيت الوحدة الوطنية بما يؤدي إلى زعزعة المواطنة التي ينعم بها مواطنو هاذين البلدين والسؤال الذي لابد من طرحه ما الذي قاد إلى تفاقم ظاهرة الإرهاب؟ وجعل مجموعة من النّاس يقبلون بصدور منشرحة لقتل أبرياء من مواطنيهم أو غيرهم؟ إنّ البعض يرى أن ضعف الشعور بالمواطنة هو العامل الرئيسي في تزايد مخاطر الإرهاب لدرجة يتمكن فيها من تفتيت بنية الدولة، لتحل محلها مكونات متصارعة يُهيمن فيها الأقوى على بقية المكونات، أي يتم الصراع على المختلف بدلاً من التوحد على المشترك بينها، مما يجعل الأوضاع مختلة لدرجة يصعب معها رؤية ضوء في آخر النفق، وهذا الواقع يحتم العودة للعمل فكرياً وسياسيًا وإعلامياً وتربوياً على تعزيز مشروع المواطنة لأنّه مشروع التنمية والاستقرار على المدى الطويل، وحين يقوى هذا المشروع يضعف الإرهاب ولا يجد تربة تقبل أن تلقى فيها بذوره الشيطانية.

لا شك أنّ المقاربة بين المواطنة والإرهاب هي مقاربة صعبة جداً، لأنّه قد نفترض أنه لكما تعززت المواطنة قلت فرص تفشي الإرهاب، لأن فهم المواطنة بشكل واقعي منهجي والاعتراف بمتطلباتها يعني القدرة على تحديد المنافذ التي يدخل منها الإرهاب ويعمل من خلالها على هدم مشروع المواطنة وإعادة المجتمعات إلى الحالة الطبيعية التي سبقت قيام الدولة، مما يعني فقدان الإنسان ليس لمواطنته فقط ولكن لإنسانيته حين يقتل بطرق بشعة لم تعرفها الإنسانية طوال تاريخها.

إنّ طرح موضوع المواطنة وعلاقتها بالإرهاب في اللحظة الراهنة أصبح أمراً لا مفر منه، فموجات الإرهاب والتطرف باتت تقض مضاجع المجتمعات العربية والإسلامية بشكل خاص والمجتمعات العالمية بشكل عام، ولم تعد الديمقراطية وتحقيق العدالة الاجتماعية ممكناً في ظل هذا التطرف الذي يسلب الإنسان كرامته وحياته، بل إنها أصبحت مدخلاً إمبريالياً لتفتيت مجتمعات مستقرة ومتعايشة لديها قناعاتها الثقافية والتاريخية بأساليب الاجتماع الإنساني، وبالتالي لابد من بناء مقاومين لهذا التحدي المصيري، لأنّ المواجهة اليوم بين قوى الاستنارة والتقدم وقوى الظلام والتأخر، بين المواطنين المخلصين وبين أفراد يُريدون أن يهددوا أوطانهم تحت ذرائع مختلفة، وحتى تحقق هذه المواجهة مبتغاها لابد أن تنطلق من قيم المواطنة التي تقرها الأديان السماوية والدساتير الإنسانية والتي ناضلت من أجلها الشعوب الإنسانية طوال القرون السابقة، هذه القيم التي يُمكن تلخيصها في الحرية والعدالة والمساواة والمشاركة في المسير والمصير، قيم تجعل من المجتمعات أشبه بالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً، أو تجعلها أشبه بالجسد الواحد الذي تتداعى سائر أعضائه لبعضها بالسهر والحمى، وبدون تلاحم أعضاء هذا الجسد الوطني لا يُمكن أن يندحر الإرهاب وتهزم شيعه وطوائفه.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك