التعليم

د. صالح الفهدي

قال طالب أنهى دراستهُ الجامعية: حين التحقتُ بمدرسة جديدة وأنا في سن الحادية عشرة وقف مديرها أمامنا في الطّابورِ مهدداً ومتوعداً بالعقاب، ومشدّداً على الانضباط، بصوتٍ مدوٍّ، ولغةٍ مزمجرةٍ..! يقول: لذتُ بنفسي في زاويةٍ ضيّقةٍ وبكيتُ ودعوت الله أن يُخرجني من هذه المدرسة، فاستجاب الله دعائي بعد سنواتٍ وخرجتُ منها مسافراً إلى إحدى دولِ أوروبا برفقة أسرتي، وهناك وجدت التحفيز والتشجيع أول ما وطأتُ المدرسة، فأحببتُ العِلم..! ردّ عليه آخر لا يزالُ في معترك التعليم المدرسي: اليوم وضعت لنا قوائم باسم "الطلاب الفاشلين"..! فناقشتُ المُعلّمة: لِمَ لم تضعون بدلاً منها قوائم للطلاب المُتميّزين لكي تحفّزوا، وتدفعوا وتشجّعوا بدل أن تحبّطوا، وتكرّسوا الفشل في الطّالب..؟!

بالطبع، هذان الموقفان لا يعنيان الكلام على إطلاقهِ هنا، لكنّها ثقافةٌ غالبةتعبّرُ عن جانبٍ معنوي من جوانبِ التعليم الذي كم علت أصواتنا منادية بأهميةِ تغييره الجذري ليتناسبَ مع السياق العلمي العصري المدعومِ بالنظرة الواقعية، والفكرِ القابل للتكيّفِ مع المتغيرات المتلاحقة، ولكن لا نملك -ونحن نرى القافلة تتحرّك ببطءٍ شديد- غير التساؤل كما سأل المتنبي:

مال الجمالِ مشيها وئيدًا .. أجندلاً يحملنَ أم حديدًا..!

فالحِراكُ بطيءٌ جداً، والتغيير لا يتواكبُ مع صفة السرعةِ التي يتّصفُ بها العصر..! حين كتبتُ عبارة أسأل فيها: متى يتحرر التعليم من الكتاب وحده جاءتني الردود اليائسة من كلّ حدبٍ وصوب وقد بحّت أصواتها إذ كتبت لي أستاذة جامعية: "بصراحة فقدت اﻷمل في مثل هذا التعليم" وكتبت لي خريجة إحدى الكليّات: "منذ أن كنّا طلاّباً في الكلية وحتى الآن ونحن ُنطالب ببرنامج للزيارات الميدانية، والتعلم العملي، إذ كان تخصصنا في مجال الإعلام والتصوير ولم نكن نتدرب عملياً.. بل إنّ معظم التعليم نظري قائم على حشو المعلومات".. وحين كتبتُ عن الحقيبة التي قصمت ظهور الأطفالِ جاءتني الردود مرّةً أُخرى متذمّرةً تتصايحُ باحثةً عن حلٍّ لمعاناة أبنائها الذين أثقلت كاهلهم الحقيبة المدرسية التي يبدو أنها شكّلت معضلة عسيرةً..! هكذا تبدو الصورة في كل جانبٍ من جوانبها: معضلاتٍ عصيّة عن الحل، مستسلمة للقدر، راضيّة بالحال الذي أصبحت عليها..! إذن كيف يمكننا أن نبني مجتمعنا إن لم نقف وقفةً إصلاحيّة ذات أسس قويمةٍ تصاحبها الإرادة الفاعلة للتغيير.

أقولها جازماً: لن تتغيّر مجتمعاتنا طالما لم يأخذ منهاج العلم صيرورة التغيير مأخذ الجد، انظروا إلى فنلندا التي كانت دولة تصدّر الأخشاب، فإذا بها اليوم رائدةً في التكنولوجيا، وذلك بسبب وقفتها الحازمة للتغيير، وتحديدها لمكمن الخلل الاقتصادي الذي أودى بالكثير من طاقاتها إلى مستنقع البطالة في بداية التسعينيات. جاء في الفقرة الثانية من قانون التعليم الأساسي الفنلندي: "إنّ الغرض الأساس من التعليم هو دعم نمو الطفل ليصبح إنسانًا وعضوًا مسؤولاً من الناحية الأخلاقية في المجتمع، وتوفير المعرفة والمهارات الضرورية لمواجهة الحياة". هذا هو العلم باختصار: أخلاق ومعرفة ومهارات لمواجهة الحياة، أيّ أنّها مرتبطة بالواقع تمكّن الإنسان من التعامل بعقلية واعية مع الحياة منطلقاً من قاعدة أخلاقية مكينة. يقول مدير مدرسة فنلندية:"إننا نعمل يومياً على إعداد الأطفال للانخراط في هذه الحياة".

هذان الأساسان هما لبُّ التعليم؛ الأخلاق والمهارات العملية، لهذا لن يستقيم علم، ولن يرفع له عماد إلا بهما.. ولقد أثبتت التجارب في مجتمعاتنا أن ما يُسمّى بـ"التعليم البنكي" تعليم الحشو المعلوماتي، تعليم التخزين والتفريغ غير مجدٍ البتّة ..! ذلك لأنّه لا يصقلُ مهارة، ولا يطّور موهبةً، ولا ينمّي قدرة، إنما ينشئ عقولاً تحفظ نظرياتٍ خيالية، تهوّم بعقلِ الطالب في عالم بعيدٍ عن الواقع..!! يقول لي ابني:" مضى علينا أسبوعان ندرس التفسير.. ماذا نفعل بالتفسير ونحن لا نتخصص فيه فتوجهاتنا علمية.." وليس التعليم الكمّي لا الكيفي حصراً على التعليم المدرسي بل هو لازمة تابعة للتعليم الجامعي أيضاً، يخبرني مُعلّمٌ يدرسُ الماجستير في إحدى الجامعات المحليّة:" لقد نلتُ الكثير من التوبيخ من قبل الأساتذة حين ركّزتُ على الكيف وليس الكم في رسالتي، إذ إنّهم يُريدون حشوها بالكثير من الكلام لتبدو سميكة المتن"..!!

التوجيه مسألة أساسية للقدرات الإنسانية، وتحديد المواهب وتعيين الميزات التي يتميّز بها الأفراد عن بعضهم البعض أمرٌ يشكّل أساس الصواب الإنساني نحو تحقيق الأهداف الفردية والوطنيّة. أمّا أن يميل طالبٌ إلى جانب من جوانب العلومِ أو الآداب، ثم ينخرطُ في تخصص مختلفٍ في الجامعة، ويلتحق في العمل في تخصص لا يميلُ إليه ولم يدرسه فهذه كارثة لأنّ الفكرة التي ترسّخت في العقلية الجمعية هي أن الشهادة أهم من المعرفة، فهي جواز الحصول على الوظيفة والترقية والوجاهة الاجتماعية ..! أما المعرفة فلها الله..!

تقول الأكاديمية والباحثة د. عهود البلوشي بعد يومٍ مفتوح لإحدى المدارس الثانوية في مدينة سانت إلبز بالمملكة المتحدة: "شعرت بغصة وأنا أتنقَّل مع تؤاميَّ ومرشدتنا الطالبة في المدرسة وهي تشرح لنا ما تقدِّمه المدرسة، ونتحاور عن تجربتها فيها. هناك لفت انتباهي أن فصول المواد العلمية والتكنولوجيا والفنون كلها قائمة على تجارب عملية، تمنيت حينها أن أرجع طالبة في تلك المدرسة". وليتنا نتعلم من هذه الدول التي جعلت التعليم العملي أساسا مكمّلا للمعرفة النظرية.

وإذا كنّا ننادي دائماً بتطوير الموارد البشرية فإنّ التعليم غير قادرٍ في صيغتهِ هذه على تحقيق هذا الهدف لأنّه نظري غير مركّز في قضايا التنمية بصورة عميقة. ها هي اللجنة الاقتصادية العمانية توصي في بيانها الأخير بـ"ضرورة قيام وزارة التربية والتعليم بوضع نظام تعليمي خاص لتنمية الطلبة الموهوبين في مختلف المجالات بما يُلبي احتياجاتهم الأكاديمية والعقلية وتطوير المناهج التربوية بما يساهم في تطوير الموارد البشرية ويستجيب إلى احتياجات سوق العمل".

إن هدف العلم الأساسي هو نمو العقل البشري، وتوسيع مداركه، وتحريكِ قدراته، وتوجيهه ليكون قابلاً لمواجهة الحياة بجميع صورها. وتحقيق هذا الهدف لا يتم في مثل هذه الأجواء التي تسيطرُ على التعليم في مجتمعاتنا. إن كوريا الجنوبية التي تقدّمت بالعلم بعد أن كانت دولة زراعية وأصبحت اليوم أعلى دولة إنفاقاً على العلم عرفت كيف تحقق هدف التعليم ففي المرحلة الابتدائية يقسّم الطلاب - منذ الصغر- مجموعات صغيرة، فيقدم إلى كل مجموعة بعض المشكلات لكي يعمل أفراد المجموعة سويّاً لحلها بدلاً من التعليم الصفي القائم على معاملة الطلاب وكأنّهم كتلة بشريّة واحدة، تتلقى المعلومة، بعقلية واحدة دون تمييز في فوارق الذكاء والمواهب والقدرات..!!

كتبتُ إلى أحد مسؤولي التعليم عندنا قائلاً:" أما آن الأوان لتغيير التعليم إلى التعلم؟!" ذلك لأنّ التعلّم هو قرين التوجيه، أمّا التعليم فهو قرين التحفيظِ والتلقين. في هونج كونج مثلاً أصدرت مؤسسة تطوير المناهج الدراسية في عام 2002 وثيقة مهمة لإصلاح التعليم حملت عنوان "التعلم من أجل التعلم" ويتضمن عنوان الوثيقة رسالتين أساسيتين:

الرسالة الأولى: تغيير التركيز من التعليم إلى التعلم. أما الثانية فهي التشديد على عملية التعلم بدلاً من حفظ الحقائق عن ظهر قلب. ونلاحظ أن الوضع عندنا قائم على التعليم والحفظ عن ظهر قلب..!!

أما سرّ إصلاح التعليم في سنغافورة بعد أن كان أشبه بالفصل العنصري بين النّخب فقد تبنّى لي كوان يو مؤسس سنغافورة مبادئ أساسية لم يحد عنها تمثّلت في انتقائه الدقيق للكفاءات القديرة للعمل كمسؤولين في الحكومة يتمتعون بكفاءة وفاعلية لصنع القرارات وتطبيقها. كما سعى من أجل الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة مثل تجربة اليابان لاتخاذها كنموذج يحتذى به إلى حين اختطاط سنغافورة النهج الذي تترسمه سياستها.

أقول بإيجاز: إننا لن نغيّر التعليم ما لم نغيّر قناعاتنا التي ترضى بالحال رافعة شعار "ليس بالإمكان أفضل مما كان"..! ولن نستطيع أن نتقدم إلى الأمام ما لم تتقدم صيغ ومساقات التعليم، ومناهجه، ومعلّموه وقبل ذلك صانعو السياسة التعليمية. والتقدّم هنا بمعنى كسر القوالب الجامدة التي توارثها المجتمع في طرق التعليم، واستبدالها بالحديث الذي أثبت جدواه لدى الدول المتقدّمة. كما يعني التفكير بعقلية منفتحةٍ، مرنة، قابلة للتكيّف مع المتغيرات. إن كلامنا عن التعليم سيتكرر طالما لم يحدث تغيير جذري مدعوم القرار من صانعي السياسات العليا. إنّ التحدي الأكبر الذي يواجه التعليم يكمنُ من وجهةِ نظري في خمسةِ مساقات متّحدة: أوّلها: تأسيسُ العلمِ على قاعدةٍ أخلاقية كما فعلت دول مثل فنلندا واليابان وهي دول رائدة في التعليم. ثانيها: ربطُ التعليم بالواقعِ بواسطة التجارب العلمية، والملموسات الحسيّة. ثالثها: تحويل التعليم ضمنيّاً إلى التعلّم والتوجيه، أي أن المعلّم يصبحُ منارةً، والطالبُ قبطانا يوجّه سفينته بنفسه في الاتجاهِ الصحيح. رابعها: تغيير هدف التعليم من مجرّد جسر عبور للحصول على الوظيفة إلى محطّات تغذيّة للمعرفة. خامسها: تغيير الفكرة النمطية للعلم والمتّسمة بالأوامر والنواهي وأعباء الواجبات، وأثقال الكتب، والاقتران بالكميات وليس الكيفيات إلى المتعة الكاملة. لتحقيق هذه المساقات يستلزم الكثير من التغييرات الخاصة بصناع السياسات التعليمية والمعلم والمنهج والإمكانيات التعليمية وكل ما يرتبط بالعلمية التعليمية برمّتها.

قال أحدهم ذات مرّة:" لقد تغيّر كل شيء إلا شيء واحد: الطاولة والكرسي فهما لم يتغيرا" مقولة تختزل الصورةَ النمطية التي آن لها تتغيّر في المعنى قبل المبنى.

 

تعليق عبر الفيس بوك